محمد الخالدي
يعدُ الشعر الشعبي أداة توصيل لبث الوعي الفكري والثقافي في المجتمع, لذا وجدناه ينهض بدوره على أتم صورة من خلال شحذ عواطف الناس وإثارة مشاعرهم تجاه القضايا الإنسانية المهمة كقضية الإمام الحسين (عليه السلام) التي أتسمت بعمق درسها وعظمة رسالتها, لكونها امتداداً حقيقياً لمنهج الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله). ويمكن تحديد تأثير هذه القصيدة جماهيريا ً بخمسة محاور, هي: العقيدة / الإيثار والتضحية / رفض الظلم والاستعباد/ تربية النفس على الأخلاق والفضائل / الصبر, والشجاعة.
وتعد هذه المحاور من سمات القصيدة الحسينية, إذ إن أغلب ما كُتب فيها لم يخلُ من واحدة أو أكثر منها. وسوف نستشهد ببعض الأمثلة الشعرية التي تؤكد ذلك.
أولا: العقيدة :
نستطيع أن نجزم أنّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين العقيدة والفن, والشعر منه بخاصة, إذ «لو أمعنا النظر في حقيقة الفن من حيث هو تعبير إنساني وجدناه منذ بداياته الأولى شديد الارتباط بالعقيدة. ورجعة في التاريخ إلى الوراء تؤكد لنا هذه الحقيقة؛ فتاريخ الفن يحدثنا كيف أن الفن نشأ في أحضان العقيدة الدينية وظل آمادا شديد الارتباط بها, بل أن المتدبر لتاريخ الفن حتى العصور الحديثة يستطيع أن يدرك هذه العلاقة الوثيقة بين الفن والعقيدة؛ فليس هناك فنان معروف لم يصدر في أعماله الفنية عن عقيدة».
وبما أنّ حبّ الحسين قد تحوّل في جانب منه إلى عقيدة ملهمة لدى شعراء الشيعة, لذا بات للقصيدة الشعبية نصيب وافر منها, وكما أن قضية الإمام الحسين عليه السلام لم تفارق وجدان الشاعر العربي, فأنها لم تفارق أيضا وجدان وضمير الشاعر الشعبي, الذي استجاب هو الآخر للكتابة عنها بعد أن تفاعل مع أحداثها الجسام وأبدع فيها أيما إبداع, وما يؤكد أنّ الحسين عليه السلام صار عقيدة في ضمير القصيدة الشعبية قول الشاعر:
يـا ضــي الإلــــه .. المـــا يشبـــهك ضـي
ويـــا دم العـــقـــيده .. البينه تنبـــض حــي
يحـســين العـــظيـم .. الثــــابـــت الـمــــبدأ
يا سيـــف الـــرساله.. الأبـــد مـــا يـصـدأ
ثانيا: الإيثار والتضحية:
يعد هذا المحور من المحاور الأساسية عند الشاعر الحسيني, والتي تكاد لا تخلو منه قصيدة كُتبت في مراثي أهل البيت عليهم السلام. فواقعة طف كربلاء كانت بحق معركة التضحية والإيثار, وقد ضرب فيها الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه أروع أمثلة البطولة والتضحية في مواجهة خصم عنيد لا يعرف إلا لغة الموت والكراهية.
لقد استطاع الشاعر الشعبي أن يصوّر بخياله وأدواته الفنية, صوراً في منتهى الروعة والجمال عن واقعة أليمة تمخضت عن مأساة, وفاجعة مريرة, مازالت حاضرة في ذاكرة التاريخ والإنسانية.
ومن أمثلة ما قيل في التضحية والإيثار والإقدام قول أحدهم:
دمك ما نشف ما برد دمك حار
من كل كطره طاحت خضروا ثوار
أفكارك جديده شما تمر اسنين
مثل الذهب تلمع قاهره الزنجار
وصوتك يعله كلما يعله صوت الريح
ويندك بإذن كل طاغيه بسمار
قافلتك شمس شكت سواد الليل
ما غربّت بعده ولا فلكها إندار
قافلتك سفينه اتحدّت الأمواج
من شافت الناس امسايسه التيار
لا ذلّت ولا ضعّف عرفها الخوف
قافلتك أحرار وانته أبو الأحرار
ثالثا: رفض الظلم والاستعباد:
من الموضوعات التي تناولتها القصيدة الشعبية قضية الوقوف بوجه الظلم والاستعباد والطغيان أياً كان مصدره, بعد أن صار من البديهي أن يستلهم الشاعر الشعبي موضوعاته من فكر نهضة الإمام الحسين عليه السلام والتي قامت على أساس رفض الظلم والعدوان وهذا ما عبر عنه الشاعر خير تعبير عندما قال:
اليــوكـف أبوجه ويصيح (لا)
كون يستنسخ (اللا) من كربلا
وقول آخر:
حسين يدري المنتهى في كربلاء
ويدري (لاءه) اتصير قربان النعم
رابعا: تربية النفس على الأخلاق والفضائل :
لا شك أن نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) قد رسّخت في المجتمع الإسلامي كثيراً من المفاهيم والقيم الإنسانية؛ لأنها كانت من صلب أهدافها.. ويفترض بالشخص المحب للحسين عليه السلام أن يقتدي بسيرته ونهجه القويم. فمحبته تحتاج إلى تربية النفوس تربية إسلامية خالصة, لا يشوبها الحقد والضغينة والكراهية, هذا من جانب, ومن جانب آخر عليه أن يتعامل مع الناس بخلق كريم وروح ديدنها العفو والتسامح والوفاء. وبرأيي أن ما تحدثنا عنه يعد أيضا من الفضائل. ولم يفت الشاعر الشعبي أن يطرق هذه الموضوعة ويشير إليها إشارة واضحة وهذا ما نلاحظه في قول أحد الشعراء:
يا حسين الصوت هــذا الينطلق من الحناجر
يقسم بـركبة رضيعك, والعهد عهد الضماير
بــيه تهـذيـب النفـوس أو بيه تعظيم الشعائـر
خامسا: الصبر والشجاعة:
لا أعتقد أنّ هناك قصيدة من القصائد التي نُظمت في رثاء الحسين عليه السلام تخلو من هذين العنصرين المهمين (الصبر والشجاعة)، فالصبر على الشدائد والأهوال سمة تميزت بها شخصية الإمام (عليه السلام), إذ لم يظهر عليه في واقعة الطف أي جـزع أو تذمر في كل ما تعرّض له. ولقد صدق الإمام علي (عليه السلام) حينما قال: (الصبر, صبران، صبر على ما تحب, وصبر على ما تكره). أمّا الشجاعة فكانت خصيصة من خصائص الإمام الحسين عليه السلام التي عُرف بها, من خلال المعارك التي أسهم فيها مع أبيه الإمام علي (عليه السلام), فضلا عما سطّره وأصحابه الميامين في كربلاء.. لقد تفنن الشاعر الشعبي في رسم صور الشجاعة والبطولة التي أبدعها الإمام (عليه السلام), كما أبدع رسم لوحات صادقة عن صبره ,وثباته ,ورباطة جأشه.
ومن الأمثلة الشعرية التي تحدثت عن الصبر ما ورد في قول أحد الشعراء:
صبرك عالمحن يحسين .. جاوز كل صبر بالناس
برغم كل الجروح البيك .. ظل صبرك مثل ينقاس
تحملت الألم والآه .. ما صابك جزع والله
ومن صبرك شعبنه الــيوم ..شـيّد للمـــفاخر ساس
الخاتمة:
بعد أن استعرضنا في سطورنا السابقة القصيدة الحسينية بوصفها ظاهرة في الشعر الشعبي العراقي وتطرقنا لكل جوانبها المتعددة بدءاً من نشأتها وتطوّرها وأنواعها وأوزانها, فضلا عن استشهادنا بنصوص متنوعة منها. نود أن نستعرض ما توصلنا إليه من نتائج, والتي يمكن إيجازه بالآتي:
إنّ قضية الإمام الحسين (عليه السلام) قد تجلت في أبهى صورها في الشعر الشعبي العراقي من خلال ما قدمه الشعراء الشعبيون من قصائد جسّدت بصدق ووعي عال مضامينها وأهدافها التي ربّما لم تتوقف عندها طويلا بعض الطوائف الإسلامية لاختلافات مذهبية عصفت بالمسلمين.
ومازالت واقعة الطف تمثل منعطفا إبداعيا للأدب الشعبي, كما مثلت ذات المنعطف في الأدب العربي قبل ذلك.
وتبقى ظاهرة القصيدة الشعبية الحسينية, ظاهرة جديرة بالتأمل والدراسة إذ إنها ما زالت ميدانا خصبا للبحث والدراسة.
وأسهم هذا النوع من الأدب في تنامي الوعي الوطني والديني في المجتمع ,و تبنى قضايا سياسية ,واجتماعية ,كانت وما زال لها حضور واضح في مشهد الحياة اليومية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
1) الشعر في إطار العصر الثوري, د.عز الدين إسماعيل, دار القلم ,بيروت,ط1- 1974م.
2) من أرشيف الباحث
3) الشاعر صباح أمين, ديوان شلال الدم, الناشر: دار الزهراء, إيران,2008م,
نشرت في الولاية العدد 132