م.م مريم رزوقي وليد
ان الموروث الادبي بمعناه الشامل احد المصادر الاساسية البالغة الاهمية التي تكون لغة الشاعر منها، (التراث لكل شاعر هو في المعنى الاخير انتقاء بين الامكانات والقيم التي يزخر بها).
ومن يقرأ اشعار الوفود يصل إلى فحوى مؤكدة على ان شعراء الوفود على تواصل دائم بالتراث العربي الادبي سواء كان في الالفاظ أو الاشعار، فلم يقتصر على معرفتهم إياه وإنما يتعدى ذلك بأن هضمه وتمثله ثم أدخله في نسجهم الشعري،،
وظاهرة التأثر والتأثير لم تقتصر على شاعر معين أو أدب معين وإنما هي خصائص الأدب الحي (فإن استيعاب التراث بمفاهيمه وقيمه وأشكاله ومواقفه يضيء رؤية الحاضر ونعني تجربة الشاعر الواقعية، ويفتح له الطريق نحو مستقبل إبداعي أرحب، فيدين للماضي بالأولوية والكمال مستعيراً للغته منظاراً من الماضي ليبصر به الحاضر وقد يفضل شعر الوفود ألفاظاً معجمية حين يرون انها قادرة على تصوير حالات معينة أكثر من مرادفها الشائع، فإيثار اللفظ المعجمي قد يكون مقصوداً لما فيه من إيحاء بالتهويل والإثارة، ولما في اللفظ من فخامة تقضي جزالة التركيب ولما يحققه اللفظ من ملائمة صوتية مع سائر الألفاظ، فضلا عن التقارب الصوتي. ومن القراءة الفاحصة لشعر الوفود وجدت الكثير من الالفاظ المعجمية مثل (هوجاء، والخلصاء، ومجلجل، والهدملة، وأطلال، ورسوم الدار، والبطحاء، وموحشات، وهودج، وجلمدا) فهذه الالفاظ عليها مسحة من الماضي ظهرت في شعرهم معبرة عن حالتهم النفسية والموضوعية، لذلك كان الشاعر يرى النصوص الأدبية الأخرى قاعدة يستند إليها في إبداعه من خلال تفاعله مع ما يقرأ ويسمع، ويرى في القديم تجلة وهيبة ويجد صوتاً مماثلاً لصوتهٍ، فيستلهمه، ليعطي تجربته قيمة إنسانية يفتح الأنات أمامها، ويمنح القصيدة فضاء واسعا، وامتدادا أبعد وأشمل يناسب التجربة المأخوذ منها وتكرار هذه الألفاظ واستعمالها يرجع إلى ثقافته التراثية وهذا (لا يشكل ردة أو إنكفاء؛ لأن الماضي تراث الشاعر – أي شاعر – ولا يمكن بأي شكل أن يغض طرفه عنه).
ان المهم عندنا أن يجيد الشاعر استعمال هذه الألفاظ، فهو قد تلمس الغرض الذي جعله يلجأ إلى مثل هذا الاستعمال ففي قصيدة (مستقل بالنوائب) للأخطل التي قالها أمام أمير سجستان عباد بن زياد.
نسيرُ إلى ما لا يغبُّ نوالُهُ
ولا مسلَّمٍ أعراضَهُ لسبوبِ
بخوصٍ كأعطالِ القسي تقلقلتْ
أجنّتُها من شقهٍ ودؤوبِ
إذا معْجلّ غادرنه عند منزلٍ
أتيحَ لجوابِ الفلاةِ، سكوبِ
وهنَّ بنا عوجٌ، كأنَّ عيونها
بقايا قلاتٍ قلّصتْ لنضوبِ
مسانيفُ يطويها مع القيطِ والسرى
تكاليفُ طلاعِ النجادِ؛ ركوبِ
قديمُ ترى الأصواءَ فيه، كأنها
رجالٌ قيامٌ عُصّبوا بسبوبِ
يعمنَ بنا عومَ السفينِ، إذا إنجلت
سحابهُ وضاحِِ السرابِ، خبوبِ
أراد الشاعر في النص أعلاه تصوير المطايا التي ارتحل اليه عليها فيقول غارت أعينها وهزلت فبدت كأخشاب القسي كما أنها أوشكت أن تجهض أولادها لشدة ما أصابها من عناء السير، وإنها تجتاز الظلام وتعاني أذى الهجرة وتتدافع في سيرها لتبلغ اليك غير منقطعة في ذهابها منذ الصباح حتى المساء، لذلك جنح إلى استعمال ألفاظ معجمية في النص لإثبات قدرته الشعرية ومعرفته اللغوية، ولم يكن القصد استقامة الوزن والقافية كما هو عادة المستعملين لمثل هذه الألفاظ، وإنما استعمله الشاعر عن وعي تام؛ لأنه لن يقوم أي لفظ مقامه في التعبير عن حالة وصف الرحلة للوصول إلى أمير سجستان.
وفي قصيدة كثير التي أنشدها أمام عبد العزيز بن مروان:
أفي رسَمِ أَطلالٍ بشطبٍ فمرجمِ
دوارسُ لما استنطقتَ لم تكلِّمِ
تكفكفت أعداداً من العينِ رُكّبتْ
سوانيها ثم اندفعنَ بأسلُمِ
فأصَبْحَ من يَربَيْ خصيلهُ قلبه
له ردَّة من حاجة لم تصرِّمِ
كذي الظلعِ أن يقصد عليه فإنه
يهم وإن يخرق به يَتيمَمِ
ان الشاعر في النص أعلاه بحاجة إلى لفظ يمتلك القدرة على التعبير عن حاله النفسية وهي الحزن واليأس، بعد رحيل الحبيبة، فرسم لنا صورة الآلام والجوى التي أحس بها الشاعر بعد أن رأى ما تبقى من ديار الحبيبة من الرسوم والأطلال لذلك عمد الشاعر إلى استعمال ألفاظ معجمية للتعبير عن حاله.
ونقرأ لنابغة بني شيبان قصيدته التي أنشدها للوليد بن عبد الملك:
أضحَتْ أميمةُ لا ينالُ زمامُها
واعتاد َنفسكَ ذكرُها وسقامُها
ورأت سهامُكَ لم تصدها فالتوت
واختل قلبُك إذ رقتكَ سهامُها
يُربي على حسنِ الغواني حسنُها
ويزيدُ فوقَ تمامهنَّ تمامُها
تخطو على برديتينِ بغابةٍ
ممكورتين فما يزولُ خدامُها
أراد الشاعر التعبير عن إحساسه اتجاه المرأة فغير الشاعر بنظره الشعراء الجاهلين فهي الطويلة الفارعة دقيقة الخصر، الممتلئ، كان الشاعر موفقا في استعماله إذ كنا قد وقفنا على استعمال شعراء الوفود للألفاظ التي تحتاج إلى انتشاره فعجم ووردت في الموروث الشعري القديم فإنه يستوحي بعض أجواء القصيدة الموروثة وربما كان لتشابه الوقف النفسي الأثر الكبير في استدعاء الموروث وبثه في قصيدته ومن هذه النماذج قصيدة الفرزدق التي أنشدها في مدح بني شيبان:
أَلمِا على أطلالِ سُعدى نسلّمِ
دوارسَ لما استُنطِقتْ لم تكلمِ
وقوفا بها صحبي عليّ، وانما
عرفتُ رسومَ الدارِ بعدَ التوهمِ
يقولونَ لا تهلك أسىً، ولقد بدت
لهم عبراتُ المستهامِ المتَّيمِ
فقلت لهم: لا تعذلوني فإنها
منازلُ كانتْ من نوارَ بمعلمِ
فما هو إلا أثر غير مباشر لقول امرئ القيس:
وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجملِ
وقول عنترة:
هل غادر الشعراء من متردَّم
أم هل عرفت الدار بعد تَوهَّم
ولا غرابة في أننا نرى في شعر الوفود مثل هذا التأثر أو الاستحضار للموروث الأدبي، فهم شعراء قريبو العهد بالجاهلية، لذلك نجد صدى عاليا لمفردات، أو تراكيب، أو مضامين لبعض القصائد الموروثة، التي ظلت عالقة في وعيهم من جراء تمثلهم لتلك القصائد، فظهرت بصماتها في شعرهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ينظر: سياسة الشعر، دراسات في الشعرية العربية المعاصرة، ادونيس، دار الادب، بيروت، ط1985، 44.
(2) ينظر: زمن الشعر، اودنيس، ط2، بيروت، 1978، 40.
نشرت في الولاية العدد 132