الإمام الصادق عليه السلام السبيل إلى رضا الله

من سيرته الشريفة

حمود الصراف

الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام رفد الأمة الإسلامية على سعتها بعلوم الدين والدنيا.. شيد جامعة الدين الأصيل..عطاء ثر لا تلم به صحائف .. وما أكثر أصوله وفروعه من خطب وعضات ووصايا وحكم فإن بها رواء الظمآن وحياة النفس وتبصرة الفؤاد فهو سبيل من سبل النجاة والهداية والوصول إلى رضا الله تبارك وتعالى.. كانت أيام علم وفقه وكلام ومناظرة وحديث ورواية وآراء مذاهب .. وهي فرصة جديرة يبدي العالم فيها علمه ليقمع بذلك الأباطيل والأضاليل ويبطل الآراء والأهواء ويبصر الناس وينشر الحقيقة، والإمام (عليه السلام) له من الحجج البوالغ التي أظهر فيها الحق وقطع فيها العذر لأنها من نواحي حياته العلمية المليئة بالعضات والدروس والعبر لا يستغني المسلم عنها

أبوه الإمام الباقر عليه السلام (باقر علوم ألأولين والآخرين) وأمه أم فروة بنت القاسم ابن محمد بن أبي بكر ولذلك كانت للإمام الصادق عليه السلام من حيث النسب مكانة عظيمة في قلوب المسلمين جميعاً.
ولد عليه السلام في يوم 17 ربيع الاول من سنة 83هـ، وكانت شهادته في 25 شوال من سنة 148هـ، وبذلك فإن عمره الشريف يبلغ 65 سنة، والمشهور أنه اطول عمراً من جميع ائمة اهل البيت – باستثناء الامام الحجة(عجل الله فرجه)-.
عصر الامام الصادق عليه السلام
لقد عاصر الامام الصادق عليه السلام في فترة إمامته ظروفا واحداثا متميزة في العالم الاسلامي، فلقد شهدت تلك الفترة سقوط الدولة الاموية ومجيء الدولة العباسية بعد حكم دام 1000 شهر لبني امية، وقد استتبعت هذه الحادثة مآسٍ ومظالم كثيرة هزّت كيان الامة الاسلامية، فلقد كان خلفاء بني العباس الذين تصدروا الدولة العباسية -ابو العباس السفاح وابو جعفر المنصور- من اشد الناس سفكا للدماء وانتهاكا للحرمات لتوطيد دعائم حكمهم.
كما شهدت تلك الفترة انفتاح العالم الاسلامي على الثقافات الخارجية كالرومانية واليونانية والفارسية، فانتشرت الافكار والمعتقدات الغريبة وعلوم الفلسفة والكلام، مما ساعد على نشوء حركات الزندقة والارتداد عن الدين الاسلامي، حتى وصلت الحالة الى أن تكون لتلك الحركات كيانات ومواقع مؤثرة في المجتمع.
ثم إن هذه الفترة شهدت نشوء التيارات المذهبية في جسم الامة الاسلامية نفسها، حيث تعددت المدارس الفقهية، وكثرت الآراء في علوم القران والسنة والحديث، وكان للانفتاح الثقافي آنذاك تأثير على تطور هذا الجانب، ولعل من ابرز معالم هذا المجال نشوء المذاهب الاسلامية كالحنفية والمالكية والحنبلية والشافعية.

جهاد الامام الصادق عليه السلام
ومن بين كل تلك المحن والملابسات وامثالها، انبرى الامام الصادق عليه السلام للدفاع عن الشريعة المقدسة وتثبيت دعائمها في صدور الناس، وعمل على حفظ الامة الاسلامية من الاضمحلال والضياع، في الوقت الذي كان يؤدي فيه مسؤوليته الكاملة كإمام من أئمة أهل البيت تجاه شيعته وأنصاره ومحبيه.
وعلى الرغم من أن تلك التيارات القوية تمكنت من أن تحرز مكاسب معينة آنذاك -كالدولة العباسية- الا أنها تهاوت في النهاية وعصفت بها رياح التغيير الى غير رجعة، وبقي خط اهل البيت عليه السلام هو الخط الوحيد الذي صمد في وجه تلك الزلازل واستمر بالنمو والتطور والاتساع الى يومنا الحاضر، وكل ذلك كان بفضل المنهج العظيم الذي سلكه الامام الصادق عليه السلام ولم يتزحزح عنه احلك الظروف والاحوال.

مدرسة الامام الصادق عليه السلام:
إن من أبرز معالم منهج الامام الصادق عليه السلام هو توسيعه للمدرسة الاسلامية التي انشأها ابوه الامام محمد الباقر عليه السلام بحيث تمكنت هذه المدرسة وخلال فترة قياسية من أن تغذي الامة الاسلامية بالعلماء والمحدّثين الذين كان لهم فضل عظيم في تثبيت قواعد الدين بوجه الغزو الثقافي المنحرف، ويكفينا في ذلك قول أبي محمد الوشاء: اني ادركت في هذا المسجد تسعمائة شيخ كلٌ يقول حدثني جعفر بن محمد عليه السلام(معجم رجال الحديث 38/6).
ولا يقتصر هذا الامر على شيعة أهل البيت عليه السلام، وانما كان الامام الصادق رافدا علميا لغير اتباعه بشكل مباشر او غير مباشر، وخير دليل على ذلك أئمة المذاهب الاسلامية الاربعة الرئيسية، فالديصاني زعيم فرقة ملحدة وصاحب الأهليجة طبيب هندي وعبد الكريم ابن العوجاء عربي ملحد وعبد الملك مصري يتزندق وعمر بن عبيد شيخ المعتزلة وأبو حنيفة إمام الكوفة ومالك إمام المدينة وسفيان الثوري وغيرهم الكثير تملأ مجادلاته معهم الكتب لا يتضايق من الأسئلة بل يفهمهم ويضرب لهم الأمثلة بمسلكه واتساع صدره لهم على الحرية الفكرية التي يتيحها الإمام عليه السلام للناس في مجلسه ليتفهموا العلم أو ليؤمنوا عن فهم دون إكراه ورغم الخلاف وإن اتسع عند البعض لكل اتجاهات المسلمين على اليسر والرحمة في الشريعة الإسلامية، وكانت هذه من الأسباب لنشر الإسلام وخلود فقهه…

من اخلاقه
وقد ملك الامام الصادق عليه السلام بأخلاقه وعبادته وأدبه جوامع القلوب، ويكفينا في ذلك ما روي عن مالك ابن انس فقيه المدينة حيث قال: (..كان عليه السلام رجلا لا يخلو من احدى ثلاث خصال، اما صائما واما قائما واما ذاكرا، وكان من عظماء العباد واكابر الزهاد الذين يخشون ربهم عز وجل، وكان كثير الحديث طيب المجالسة كثير الفوائد، فإذا قال: (قال رسول الله) اخضرّ مرة واصفرّ مرة اخرى حتى ينكره من يعرفه، ولقد حججت معه سنة فلما استوت به راحلته عند الاحرام، كان كلما همّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه وكاد أن يخر من راحلته، فقلت يابن رسول الله ولا بد لك ان تقول، فقال: (يابن ابي عامر، فكيف أجسر أن اقول لبيك اللهم لبيك واخشى أن يقول الله عز وجل لي: لا لبيك ولا سعديك).(روضة الوعظين 212)

من اقواله عليه السلام:
عن عمرو بن سعيد بن هلال الثقفي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: إني لا ألقاك إلا في السنين، فأخبرني بشئ آخذ به، فقال: أوصيك بتقوى الله والورع والاجتهاد واعلم أنه لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه.
الكافي: (ج 2 – ص 76)
عن حديد بن حكيم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: اتقوا الله وصونوا دينكم بالورع.
عن يزيد بن خليفة قال: وعظنا أبو عبد الله عليه السلام فأمر وزهد، ثم قال: عليكم بالورع ، فإنه لا ينال ما عند الله إلا بالورع.
لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه.
قال أبو الصباح الكناني لأبي عبد الله عليه السلام: ما نلقى من الناس فيك؟! فقال أبو عبد الله عليه السلام: وما الذي تلقى من الناس في؟ فقال: لا يزال يكون بيننا وبين الرجل الكلام فيقول: جعفري خبيث، فقال: يعيركم الناس بي؟ فقال له أبو الصباح: نعم قال: فقال: ما أقل والله من يتبع جعفرا منكم، إنما أصحابي من اشتد ورعه، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، فهؤلاء أصحابي
ابن آدم اجتنب ما حرمت عليك، تكن من أورع الناس.
علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد، عن القاسم بن محم ، عن سليمان المنقري، عن حفص بن غياث قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الورع من الناس، فقال الذي يتورع عن محارم الله عز وجل
عن أبي أسامة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: عليك بتقوى الله والورع والاجتهاد وصدق الحديث وأداء الأمانة وحسن الخلق وحسن الجوار وكونوا دعاة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم وكونوا زينا ولا تكونوا شينا، وعليكم بطول الركوع والسجود، فإن أحدكم إذا طال الركوع والسجود هتف إبليس من خلفه وقال: يا ويله أطاع وعصيت وسجد وأبيت.

استشهاده عليه السلام
كانت المكانة التي يحتلها الامام الصادق عليه السلام في الامة الاسلامية تقض مضاجع الظالمين، وعلى الرغم من أنه لم يبدر منه ما يدل على تحركه باتجاه اسقاط دولة بني العباس، الا أن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور لم ينفك عن التضييق عليه ومحاولة قتله، ومن ذلك انه قال يوما لصاحب سره محمد بن عبد الله الاسكندري: يا محمد هلك من أولاد فاطمة مقدار مئة او يزيدون وقد بقي سيدهم وإمامهم. فقال له محمد: مَن ذلك؟ فقال: جعفر بن محمد الصادق. فقال: يا امير المؤمنين انه رجل انحلته العبادة واشتغل بالله عن طلب الملك والخلافة. فانتهره المنصور وقال: علمت انك تقول بإمامته، ولكن الملك عقيم، وقد آليت على نفسي أن لا امسي عشيتي هذه او افرغ منه. ثم استدعى أحد جلاوزته وامره بقتل الامام لكن الله سبحانه انجاه منه.
واستمرت محاولات المنصور على هذا المنوال الى أن دس للامام الصادق عليه السلام نقيع السم في عنب ورمان، حتى إذا اكل منه الامام تغير لونه وصار يجــــود بنفسـه المقدسة وهو يتقيّأ كبده قطعا قطعا، ثم قضى نحبه والتحق بالرفيق الاعلى مهضوما.
إن الامام عليه السلام يعد بحق خير قدوة للمسلمين على اختلاف مذاهبهم، فلقد اثبت للتاريخ أن الدين الاسلامي يقوم على اساس العقل والمنطق السليم، وهو شريعة لا تحتمل اتباع الاهواء الذاتية والمصالح الوقتية التي تزول بزوال أهلها، ومهما توالت الخطوب وتكاثرت الرزايا، فلا بد من ان يأتي اليوم الذي تزدهر فيه شجرة الاسلام المقدسة وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

نشرت في الولاية العدد 133

مقالات ذات صله