عمار عليوي الفلاحي
لاجرَمَ ولاغرو من أن يحتار الفرد، حينما يروم الكتابة عنك يا أمير المؤمنين لشدةِ ما ينكفئ به البوح، ويرتعش بأناملهِ القلم، من أن يحيط خبراً بسيد الكلم، وجهبذ بلغاء الأمم، ومولى العرب والعجم، بنفسي أنت من رحى للخلافة وقطب الرحى، وأنت لها ما بقى الجديدان، وشمسُ أرخى بسدولها المغيب، حيث النبأ العظيم أنت وهل أتى، وما أتى بالخلقِ شبه لشرفك أو ضريب، عجباً كيف ارتضت -عفطة العنز- عنك بدلا، وتيجان الولاية أنت وسندسها القشيب، لعمري هل رأت السقيفة دونك حولا، وهل يتوارى وميض الشمس بلبد القنيب، أم رامت السقيفة إنزالك كرةً، وأخرى، وتارةً!!
عالمية الحضارة الفكرية التي وضع حجر أساسها المولى أمير المؤمنين (عليه السلام) والحاملة ببوتقها _الفرج والمخرج_ للأمم بشكل عام، وللأمة الإسلامية بشكل خاص، لم ترى النور بعد. من خلال إحدى أشهر مقولاته الفكرية التنموية، التي كانت من الممكن أن تنعطف ببوصلة البنية الذهنية حيث إتجاهات التحرّر الفكروي، التي سنتعرض إليها في موردين هامين للقارئ النهم بعد التعريج على ما تشهده الأمة من الأسر بحلق بنية التخلف، ممّا أبطأ بعجلة تقدّمها من الالتحاق بالركب الحضاري، بالنحو الذي جعلها تضفي صبغة القداسة لركامها الثقافي المتوارث، مع تعطيل تام للعقل من أن يكون عقلاً ناقداً ومستقصيا، وإبقاء الأمة سادرةً في غيبوبتها، حيث بات جريان الفكر راكداً في نهر الحضارةِ الإسلامية، بعد ما كان ذا نسيج حي، وباتت الأمة تترك للحياة تنظيم أمورها، غير أن الأمم جميعاً، سيّما من _أنفلتت نسيباً من حلق الجهل_ لم تشهد مشاهدته وتشهده الحضارةِ الإسلامية، التي أنزل بين ظهرانيها الثقلان العظيمان المتمثلان بـ_الكتاب والعترة_فكانا ولم يزلا يمثلان الملمح لضفة النهر الحضاري، الكفيل بتبلج ما سلكته الأمة من عتم، كإقتفاء شرائع الموتى، دونما التطلع الى ما يتماشى مع أوضاع حاضرها.
أستطاع أمير المؤمنين(عليه السلام) أن يؤسس لحضارة فكرية مشرقة تنعطف بالأمة الى مصاف التطور الحضاري، من خلال مقولته الفكرية الخالدة :لا تقسروا أولادكم على عاداتكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم. هذه المقولة (ليست موجودة ضمن الحكم الواردة في آخر نهج البلاغة لكن أوردها عبد الحميد المعتزلي شارحاً نهج البلاغة منسوبة لأمير المؤمنين)(عليه السلام)، فكانت هذه المقولة بمثابة تنمية فكرية تبقي العقل على قيد النقد والاستقصاء، على اعتبار إن الأنسان كائن تلقائي، يولد بقابليات فارغة متعطشة للمثيرات، يحتلهُ ويكوّنهُ الأسبق إليه، لذلك هو قابل للتشكل بما هو السائد من الثقافات، لأنه ينساب بما يتأثر به من تبوئه الإجتماعي،_بسلبه وإيجابه_حيث خلق الله تبارك وتعالى، العقل بقابليات فارغة مهولة، ولو أن الإنسان في مختلف الأمم، جَعَلَ من مقولة أمير المؤمنين(عليه السلام) خارطةً لطريقه الفكري، المستقل عن الأدلجة الموروثة، لاستفاق من سباته، وجعل من عقله مصدراً إشعاعياً للفكر والتنمية، وقد لاتكون تلك النظم الحضارية، العاملة على تصحيح بنية التخلف، بغائبة عن القرآن الكريم كذلك، حيث ركز في مواطن كثيرة على إذكاء ثقافة الفكر المتجدد المستقل عن ما هو سائد من التنميط الفكري، حيث أورد كلمة (يتفكرون ثمانية عشر مرة)في إشارة واضحة الى أهمية التفكر في بناء المجتمعات وإبقائها متجددة. لذلك لو أننا ننظر بكثب الى مراحل الإنقلاب على الأعقاب، والاصطفاف بالضد من كل ما من شأنه أن ينهض بالحاضر الثقافي المحتضر، التي ترزخ تحت طائله الأمة، منذ أن تأفل وميض النبوة في الأمةِ برحيل المصطفى الخاتم(صلى الله عليه وآله) لوجدنا وبوضوح أن ما يقف بطليعتها هو انحراف هرم السياسة الإسلامية عن القيادة المعصومة والذي هو نتاج طبيعي لتقفي الأمة ثقافة القطيع، وأغفالها الفكر، وإبقائها رهينة المسلمات التي ألفوا آباؤهم عليها، فتلكمُ بنية التخلف التي أسقطها المولى علي(عليه السلام) بنظريتهِ الحضاريةِ هذه. وعلى مستوى القيادة تفرد (عليه السلام) في واحدة من أفضل ماشهدت البشرية، في أعلى مراتب الريادة، فبالرغم من أن توليه جاء بأمر من الله تبارك وتعالى، وبالرغم كذلك من تقمص القيادة منه مع تمام أحقيته الإلهية والمنطقية، بالنحو الذي لايلتمس معه العذر لمن يتقمص الولاية! لكن الإمام (سلام الله تعالى عليه) تعامل مع المنعطف المغاير لرسم حركة القيادة من الباري (تبارك وتعالى) والنبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) بمنتهى الفكر الفلسفي الغائب عن جميع القُواد منذ الأزل، حيث لم يصطف مع الجبهة المعارضة رغم أحقيته بذلك ولم يجسد دور المنعزل، بل لعب دور المستشار المقوم حتى أخذ من هذا العنوان كدرس من مفهومي الإستجابة والريادة، الكفيلة بالنهوض بواقع الأمة، وتوجيه مصائر الدولة حيث بوصلة التقدم والإزدهار، وكف السوء عنها بمجمل مفاصلها، العقائدية والتنموية وحتى المشاكل الإجتماعية، حتى قال عنه قائلهم:(لا أبقاني الله لمعظلة ليس لها أبو الحسن) . كما لم يترك (عليه السلام)، حدث تقمص الولاية يمر مرور السحائب، بل نوه عنه، بخطبته الشقشقية الخالدة مما يبين مدى التوازن بفكر الإمام (عليه السلام) في حيال التقلبات الفكرية المتجددة، فأين القُواد الإسلاميين الآن من هكذا فكر!!؟
على الرغم أن التأريخ الإسلامي والعربي معاً، عقما من أن يتمخضا الى فجوة سياسية أشبهُ بتلكم التي أعقبت التداول التعسفي للسلطة إبان الأحقاب الممتدة من رحيل الهادي المصطفى(صلى الله عليه وآله)!!
حيث كان من المستطاع جداً، أن يسبر في أغوار المعارضة لأيٍّ من الحكومات الثلاث، و ما يسهل آلية الولوج في خضم المعارضة وقتذاك هو تردّي واقع الدولة وإحاطتها بكم هائل من المتربصين بها، من يهود وروم وأقوام أُخر، لكن المولى(عليه السلام) لم يكن ليعرض شعبه ومقدرات الدولة الى ألعوبة يعبث بها الأجانب، بل سعى جاهدا الى الذود عن الدولة وتجنيبها كل ما من شأنه أن يحدق خطراً في ظهراني الأمة، ولم تكن المنغصات التي تعرّض لها المولى علي(عليه السلام) تتوقف على الإقصاء فحسب! بل اقترن ذلك الإقصاء على حزمة سلوكيات أريد من خلالها النيل منه؛ متجسداً ذلك بحرب الجمل وما أفرزته هذه الحرب من تداعيات مأساوية قد يطول بنا المقام في سردها هنا. و لو أردنا معرفة الهدف من إصرار أمير المؤمنين(عليه السلام) على إبقاء الخلافات السياسية شأن داخلي فقط؛ كذلك الحال بالنسبة لسائر مفاصل الحياة الأخرى، حيث عمل(عليه السلام) جاهداً على إرساء السبل الكفيلة بتطوير المجتمعات وإذكاء التيار الفكروي، من خلال خطبه وحكمه، لكن لم تحسن القاعدة معها التصرف بالنحو الذي يحررها مما كبلت به من أدلجة متوارثة، كما أن الغالب من الواعظين والمحققين لم يوجهوا الناس بما يتناسب مع الحضارة الفكرية التي ارادها (عليه السلام) أن ترى النور! تارة يأخذ بالواعظين و الكتاب، والمؤرخين وغيرهم الإعتزاز بالأثم، فيحول بينهم وبين إظهار الحقائق، وتارة أخرى يكون المانع من التطرق إلى فكر الوصي، لسطحية الكاتب والواعظ ذاته، بسبب إسهابه بطرح ما هو مطروح، وجعل المتلقي يعرف تماماً ما سيتطرق إليه المتبني لشيوع مزايا الإمام علي (عليه السلام). وإلا الأمر أكبر من أن يحصر بما هو متداول على جلالته من روائع الحضارة العلوية، وكذلك ضرورة توجيه درر الوصي توجيهاً فكرياً، يتناسب وانتشال الأمة من واقعها الثقافي المحتضر، التي باتت بسببه عيالاً على نفسها، فكل شيء في جنباتها لا يسر صديق، فالثقافات الغربية على ضحالتها تشكل الآن سيادة، تزاحم منظومة القيم الأصيلة على الصدارة، كذلك تفشت في أرجاء الأمة حزمة من السلوكيات التي ما أنزل الله بها من سلطان، كاتخاذ جملة من الناس، أشخاصاً اصحاب نفوذ حزبيٍّ، أو سياسيٍّ، خطوطاً حمراء لهم، لا يجرؤون على انتقادهم أو وضعهم على جادة النقد و الاستقصاء، متناسين بذلك أنّ الإنسان طالما هو خارج مضمار العصمة الشريفة فهو بذلك عاجز عن إدراك الواقعيات. ومتجاهلين كذلك أن المولى أمير المؤمنين (عليه السلام) رغم عدالته التي لم يشهد لها العالم من نظير، إلا أنه هو من سعى إلى شيوع ثقافة النقد ضده ولم يكيف القاعدة على ما أتى به من تسديد إلهي حيث قال: (أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ: أَمِيرُالْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ! فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ، كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلاَفِهَا، وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا، أَوْ أُتْرَكَ سُدىً، أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً، أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلاَلَةِ، أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَة)ِ (بحار الانوار: ج23/75)الى آخر قوله الشريف، فمتى رأت عبدة الناس من أصنامهم هذا التنميط الفريد من نوعه في التعامل معهم كقاعدة حتى وضعوا الجدار تلو الجدار أُحيطت بمن هم سواهم كحصون منيعة!!؟
نشرت في الولاية العدد 133