د. علي زناد كلش البيضاني
لا شك في أن الدعوات المُنادية إلى تأسيس بنية عقلية تتماشى والحداثة التي تعج بالعالم الآن هي دعوات لا يمكن الأخذ بها على علاّتها والإقدام عليها برؤية تقبُليّة مطلقة دون خضوعها إلى سلسلة من التحقيقات ووضعها تحت مجهر الاختبار العلمي الذي يُمكّن بالتالي من الخروج بنتيجة تتيح للآخر (المُطالِب) الفرصة نحو المعرفة اليقينية ـ النسبية على الأقل ـ لما ترنو إليه فلسفة هذهِ الدعوة وإن لم يكن بالأمر الهيّن سيّما إذا كان الأمر متعلقاً بمفردة من مفردات المنظومة الفكرية التي يملكها الإنسان، مُشكلةً في جوهرها الكينونة العامة لشخصيتهِ العلمية والمعرفية.
إن هذهِ الدعوة تبدو للوهلة الأولى دعوة براقة تندرج تحت إطار الاهتمامات العلمية والمعرفية وبالخصوص عند الذين يملكون تأسيساً معرفياً قاصراً إذ تنخدع عقولهم بمجرد السماع بهكذا دعوة دون الولوج في معرفة الماورائية ـ المقصودة ـ منها والغاية المتوخاة من قبل الآخر في إطلاق دعوة تحمل مضموناً وتطرح بُعداً مفاهيمياً كبيراً وخطيراً في آن واحد على مستوى البناء العقدي المرتبط بحركة الإنسان نحو التكامل المعرفي في إطار العقيدة الحقة المتمثلة بالشريعة الإسلامية .
إن هذهِ الدعوة تنطوي على نوايا سيئة وخبيثة تستهدف البنية الدينية الإسلامية ومحاولة لاقتلاع جذور الفكر والتراث الإسلامي الأصيل وخطورتها تكمن في انطلاقها من نخبة تمتلك أدوات جيدة في إطار طرح الرؤى والأفكار تجاه الآخر لإقناعهِ وجرهِ إلى ساحة التيه والضيعان في غمرة التقلبات أو ما يدعوه بـ (الحداثة) وضرورة التغيير والمواكبة الطردية لما أصبح عليه العالم اليوم وإن كان مخالفاً ومناقضاً لما يحملهُ الآخر من ثوابت أيّاً كان نوعها وشكلها، ولهذا فإن الدعوة إلى تشكيل عقل إسلامي جديد يأخذ على عاتقهِ قراءة النص الديني قراءة حداثوية تتسم بالقطيعة المعرفية مع الماضي والتراث القديم، هي دعوة لا بأس بها إذا كانت تسير في حركة التجديد للقراءة النصية للدين الإسلامي وعندما نقول التجديد نعني بذلك أن نقرأ الدين قراءة جديدة تتفق والواقع الجديد لكن الأساس في هذهِ القراءة هي الأصول الأولى للإسلام (الثوابت) أي أننا نُجدد من داخل التراث نفسه ونجعله المرتكز للانطلاق في التواصل والاستمرارية مع المستحدثات وليس التجديد هنا هو نقيضاً لاكتمال الدين وثوابته بل إنهُ السبيل لامتداد تأثيرات الدين الكامل وثوابته على الميادين الجديدة والأمور المستحدثة الضامن لبقاء «الأصول الإسلامية» صالحة لكل زمان ومكان، لكن ما يريده الغرب من هذهِ الدعوات التجديدية هو مناقض لما أسس له الدين الإسلامي فالعقل الإسلامي لا يمكن إعادة تشكيله لأن المقصود بالعقل هنا هو ( الوحي الإلهي ) الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بلحاظ المصدرية الإلهية لهذا العقل التي لا تقبل الخطأ أطلاقاً، فالغرب عزف على وتر حساس من خلال ضرب الركائز الإسلامية التي يستند إليها الإسلام والمسلمون وهو المصدر الرئيسي لهذا الدين من خلال نقل العقل الإسلامي من المصدرية الإلهية إلى النتاج البشري الذي يحتمل الخطأ ليكون صيداً سهلاً بعد ذلك في إمكانية الدس عليه والانتقاص منه وهو ما يرفضه الشارع المقدس لأن الأخذ بمبدأ البشرية للعقل الإسلامي معنى ذلك أن نؤسس لأنفسنا ديناً جديداً يقتلع جذور ما نص عليه الإسلام من قول (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامهُ حرام إلى يوم القيامة) ولا نعلم هل الغرب نسيَ أو تناسى أن مصدر الثبات والقوة العقائدية عند المسلمين هو أمرٌ متأتِ من التكوين الإلهي الذي لا دخل للبشر فيه لهذا الدين، ولهذا أنتبه الغرب إلى هذهِ المسألة وأخذ يبحث عن منافذ للوغول إلى داخل الفكر الإسلامي والتلاعب بهِ عن طريق تجنيد بعض المستغربين ـ العرب المتأثرين بالفكر الغربي ـ واللاهثين وراءه للدخول في هذهِ المعركة الفكرية بالنيابة عن الغرب المتربص والمسخّر لإمكاناتهِ المادية والمعنوية إذ أعطى مناصب علمية لهؤلاء ليس حباً بهم بل لأنهم أدوات يستعملها لتنفيذ مآربهِ لضرب الدين من داخل البيت الإسلامي ومن قبل المحسوبين عليه أمثال (محمد آركون «الذي أُعطيَ لهُ كرسي الأستاذية للدراسات الإسلامية في جامعة السوربون، نصر حامد أبو زيد، محمد عابد الجابري، علي حرب وغيرهم ) وهنا تكمن الخطورة فاختيار هؤلاء معناه التصديق و الاطمئنان والتقبل المسبق من خلال الإيحاء للآخر ـ المسلم ـ بأنهم قد قرؤوا النص الديني وتنبهوا إلى هناته من خلال استكناه موارد الضعف سيّما وهم مسلمون ولا داعِ للمسلم في التشكيك بما يقولونه على عكس إذا تبنى الغرب هذا الأمر مباشرةً فسيكون عدم التسليم من قبل المسلمين لهم هو الخيار الوحيد لأنهم سيعدّوه جزءاً من إرهاصات صراع التنصيص الديني بين المدرستين ( الشرقية الإسلامية ـ الغربية النصرانية ) الذي ينسحب بدوره إلى المستويات الأخرى السياسي والاقتصادي والثقافي…الخ .
والملاحظ لهذهِ الدعوات يجد أن حالة التشكيك بإلوهية المصدر للقرآن الكريم وكل ما يمت إلى الدين الإسلامي بصلة قد تعرض للنقد والانتقاص من قبل الغرب أنفسهم وعلى مستويات مكشوفة وواضحة للعيان بشكل جلي وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن شكل ومستوى الصراع قد بلغ أوَّجه ونذكر من هذهِ الافتراءات على سبيل المثال لا الحصر:
– جورج سيل زعم في مقدمة ترجمته لمعاني القرآن 1736م، أن القرآن إنما هو من اختراع محمد (ص وآله) ومن تأليفه وأن ذلك أمر لا يقبل الجدل.
– ريتشارد بل يزعم بأن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد استمد القرآن من مصادر يهودية ومن العهد القديم (التوراة) بشكل خاص، وكذلك من مصادر نصرانية.
– دوزي ت 1883م: يزعم أن القرآن الكريم ذو ذوق رديء للغاية ولا جديد فيه إلا القليل، كما يزعم أن فيه إطنابا بالغا ومملا إلى حد بعيد.
– جاء في تقرير وزير المستعمرات البريطاني أومسبي غو لرئيس حكومته بتاريخ 9 يناير 1938م: أن الحرب علمتنا أن الوحدة الإسلامية هي الخطر الأعظم الذي ينبغي على الإمبراطورية أن تحذره وتحاربه، وليس الإمبراطورية وحدها بل فرنسا أيضا، ولفرحتنا فقد ذهبت الخلافة وأتمنى أن تكون إلى غير رجعة.
– شيلدون آموس: إن الشرع المحمدي ليس إلا القانون الروماني للإمبراطورية الشرقية معدلا وفق الأحوال السياسية في الممتلكات العربية، ويقول كذلك: إن القانون المحمدي ليس سوى قانون جستنيان في لباس عربي.
-رينان الفرنسي: إن الفلسفة العربية هي الفلسفة اليونانية مكتوبة بأحرف عربية.
– أما لويس ماسينيون فقد كان زعيم الحركة الرامية إلى الكتابة في العامية وبالحرف اللاتيني.
ـ جاك دريدا صاحب المدرسة التفكيكية الذي يقول استحالة وجود نص متماسك وهو بهذا يشير وأن لم يكن بصورة صريحة إلى النص القرآني.
وبعد هذا الطرح يتضح أن فلسفة وغايتها هذهِ الدعوات هي غايات شيطانية قصدها النيل من الدين الإسلامي محاولةً هدم الأُسس المتينة لهذا الدين المتماسك على مر الدهور ليسهل عليهم بذلك زعزعة ثقة المسلم بدينه ومن ثم الأخذ بهذهِ الترهات والخزعبلات على محمل الجد واعتبارها أساساً جديداً في التفكير العلمي لمن يريد الوقوف على الحقيقة متخذين من سلخ المصدر الإلهي للقرآن الكريم وإيهام الناس بأنهُ من نسج النبي محمد (صلى الله عليه وآله) وهو ما رد عليه القرآن الكريم بالقول (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) حتى يُمكن للآخر المشكك أن يتحرك ضمن المنهج النقدي في حرية تامة لكن (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَالله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) .
نشرت في الولاية العدد 133