التَّجويدُ الصَّوتُّي بَينَ الدَّراسةِ والتَّطِبيق

الأستاذ: حسين حيدر الفحّام

لاريب انَّ الصوت نعمة يمنُّ الله تعالى بها على مَن يشاء من عباده، شأنها شأن سائر النِّعَم الأخرى، كالقوَّة، والجمال، والذكاء، وغيرها.
ولتلفُّظ الحروف في كلِّ لغة من لغات البشر مخارج فمويّة تخرج منها (لسانيَّة وشفويّة وحنجريّة) وبما ألِفَتْه من مخارج أخرى تشترك في تكوين الحروف عند قرع اللسان لمخارجها واحتكاك الهواء الجوفي المارّ بها.
وأنَّ مخارج الحروف تلك تتّسِعُ وتضيق وفقاً لطبيعة كلِّ حرفٍ من الحروف، حتّى صار لأدائها الصوتي علماً يحكم بسلامتها وصحّة النطق بها له موازينه الخاصّة وله شخصيّته المستقلّة كاستقلال النحوّ والصرف والعروض وقواعد رسم القلم.

أبجديَّة العربيّة الفصحى
إن الحروف العربيّة التي عرفها العرب في لهجاتهم القديمة كثيرة قد تكون بلغت خمسين حرفاً غير انَّ التسعة والعشرين حرفاً المعروفة اليوم في أبجديَّة العربيّة الفصحى إنّما هي الحروف المستحسنة التي نزل بها التنزيل العزيز.. وفقاً لما توفّر فيها من ميزات ومواصفات ووظائف تؤدّى عند تحقق الحاجة إليها في التعبير.
انَّ هندسة الصوت في العربيّة الفصحى التي تنزَّل بها القرآن الكريم تبدو بوضوح وجلاء ذات كيانٍ في غاية الإحكام والرصانة ممّا لانحسب لغة أخرى غير العربيّة قد أُوثرت بمثله.
وبهذا نعلم أنَّ علماء التجويد قد استفادوا استفادة لاتنكر من الجهود الضخمة لصلحاء الصحابة والتابعين، ومن علماء اللغة الأوائل الذين أرسوا قواعد علم التجويد تصنيفاً وتأليفاً، نظماً ونثراً، حتّى برز علماً متكاملاً له أصوله وقواعده ومبادئه التي انصَبَّ جُلُّها بدراسة وممارسة أصوات الحروف وصفاتها، وصورها المسموعة في أوعيتها المقطعيّة المختلفة وما في ذلك من قوانين في إقلابها وإبدالها وإظهارها وإخفائها لمعالجة اللحن الخفيّ واجتناب ما يطرأ على الأصوات العربيّة من خلل بسبب عدم توفيتها حقّّها من المخارج والصفات الذاتيّة اللازمة من همس وجهر وشدّة ورخاوة وغيرها، وإعطاء كلِّ حرفٍ مايستحقّه من الصفات العرضيّة التي تنشأ عنها وما يطرأ عليها من أحكام التأثّر والتأثير عند تركيبها في النطق كالتفخيم الناشئ من الإستعلاء وكذا الحال بالنسبة للترقيق والمدّ والإظهار وغيرها.

مباحث التدريب العملي لنطق الحروف
حيث تمكّنت الدراسات الصوتيّة تلك من رصد الإنحرافات المتوقعة واستئصال مسألة اللحن الذي ابتُلِيَت فيه تلاوة كتاب الله العزيز، ومعالجة ما أغفله القُرّاء الناشؤون من أوّل عهدهم وتنبيههم إلى أصول التلاوة وأساليبها وقواعدها بُغية إصلاح الفاظهم من شوائب اللحن الخفيّ، وتصفيتها وتخليصها ممّا أصاب السنتهم وما فشى في كلام العرب من فساد وارتضت عليه طباعهم حتَّى صار لهم عادة وسجيّة لم تحمد عقباها.
والحقيقة انّ اللحن الخفيّ لا يعرفه إلاّ أهل اللغة والحذّاق من أهل القراءة الذين درسوا أصوات اللغة وحدَّدوا صور نطقها وفق مواقعها الصوتيّة الصحيحة إعتماداً منهم على أدائهم وسليقتهم ولهجتهم المستقيمة ولسانهم الفصيح ذلك كي يعطوا الحروف حقوقها خالصة من حيث قوّتها وضعفها وما نشأ من تأثير مباشر وغير مباشر حال إفرادها أو تركيبها.
والظاهر الواضح انَّ الدراسة التي نحن في صددها يميَّزها ويؤكّدها الشمول في استغراق جميع مباحث التدريب العملي لنطق الحروف وما يزيّنها برياضة اللسان، وكثرة التكرار للأمثلة القرآنيّة المبنيّة على المشافهة والدراية بأدقّ القواعد وأسماها في وصف العمليّة النطقيّة ومعالجة عيوب النطق وأمراض الكلام برمّته.
ولمّا كان لتلاوة التنزيل كيفيّة متلقّاة عن المصطفى (صلى الله عليه وآله)، كان لابدّ من وجود شرائط وأركان تجعلها على تلك الكيفيّة الخالية بما يخلُّ بها وبقواعدها، كي لاتخرج القراءة عن مضمونها وحقيقتها وتكون قراءة صحيحة متلقّاة، وتلك الأركان نجملها بالنطق السليم للكلمات القرآنيّة وتبيين مخارج وصفات حروفها، وضبط حركاتها ضبطاً لايخرجها عن معناها مصداقاً لأمره تعالى وهو يعلّم الرسول (صلى الله عليه وآله) كيف يقرأ (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ..) الاسراء/ 106، (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) (سورة القيامة/ 16-19)، (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) (المزّمّل/4).

قراءة القرآن وفق ضوابطه
لقد كان ترتيل القرآن من هديّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) وهو القائل: (زيّنُوا القُرآنَ بأصَواتكِمُ) و(لِكُلِّ شيءٍ حِلْيَةٌ وحِليَةُ القُرآنِ الصَّوْتُ الحَسَنُ) الكافي 2/608.
وقد نُقِلَ عن حالات النبيَّ (صلى الله عليه وآله) (أنَّهُ كانَ يقطّع قِرَاءته آية آية، ويمدّ صوته مدّاً) مجمع البيان10/378، وعن أًمّ سلمة (رضوان الله عليها) أَنها نعتت قراءة النبي (صلى الله عليه وآله) (قِراءةً مُفسَّرةً حرفاً حرفاً) مسند أحمد بن حنبل 6/294.
ومجمل الأحاديث جاءت عنه (صلى الله عليه وآله) وعن أهل بيته (عليهم السلام) إنَّما تأمرنا أن نقرأ القرآن وفق ضوابطه المرسومة بألسُنٍ خالية من العاهات اللفظيّة واللحن، وأن نضع التمهُّل والتأني نصب أَعيُننا، حتّى لا يخفي به بعض اللفظ ويلتبس المعنى ويعدل به عن نهجه القويم والله تعالى يقول: (قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَج) المزّمّل/28، و(كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) ص/29، و(كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) الفرقان/32.
ولهذا ورد استحباب تحسين الصوت وتجويده والترسُّل به على حسب ما مَنَّ الله على القارئ من حسن الصوت.
رُويَ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حين سُئِل عن معنى الترتيل أنَّه قال: (التّرتيلُ هُوَ حِفظُ الوُقُوفِ، وأَدَاءُ الحُروفِ) وفي مكان آخر: (بَيِّنه تِبياناً وَلا تَهُذَّهُ هَذَّ الشِّعْرِ وَلا تَنْثُرهُ نَثْرَ الرَّمْلِ وَلَكِنِ إقْرَعُوا قُلُوبكُمُ القَاسِيَةِ) الكافي 2/606 كما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): (هُوَ أَن تَتَمَكَّثَ فيهِ وتُحَسِّنَ فيهِ صَوْتَكَ) مجمع البيان 10/378. وعنه أيضاً: (أنَّ القُرآنَ لا يُقْرأ هَذْرَمَةً، وَلَكِنَ يُرَتَّلَ تَرْتِيلاً) نور الثقلين نور الثقلين5/447.

تنمية الثقافة الإقرائيّة
ولأجلِ أن تكون دراستنا لعلم التجويد أعمق وعلى قدم راسخة من الأصول العربيّة كان لابدّ من مدرسي التجويد الى توجيه طلابهم في بذل أقصى جهد ممكن لتنمية قدراتهم من خلال اعتنائهم بموضوعات الدرس الصوتي نظرياً وعملياً وأن يمعنوا إنصاتاً إلى تلاوات القّراء البارزين الذين بلغوا مبلغاً متطّوراً في الأداء، وأن يستغلُّوا إقامة الدَّورات التعليميّة والمحافل القرآنيّة التي تقيمها المدارس التربويّة والمعاهد الإقرائيّة التي تديرها المؤسسات المتخصّصة والعتبات المقدّسة استغلالاً دائماً وممارسة حثيثة، ومتابعة واعية، وأن يُلمُّوا بقدر ممكن من دراسة البلاغة والنحوّ والتفسير، وأن يتوغّلوا بدراسة الأنغام وأدب الخطابة دراسة علميّة لا دراسة عابرة كي نجد طبقة من المقرئين ممّن يستوعبوا الثقافة الإقرائيّة ويتفهَّموا دقائق النصوص المتلوَّة فهم تفسير وبيان وتذوُّق ليستطيعوا أن يوائموا بين الصوت الإلقائي وبين النصّ المقروء، ويُعطوا الصور التي يصورها القرآن وبما أتى به من مرامٍ وعِبَرٍ ببلاغته المنقطعة النظير. ويسألوا الله أن يهديهم دوماً إلى سبيل الخير والتوفيق في خدمة هذا الفن، وحماية العلم، وصيانة الكتاب العزيز.
وهذا يزيدنا اعتزازاً وإعجاباً، وافتخاراً بقُرّائنا،وبتلاواتهم الكريمة، وبلغتنا العربيّة لغة القرآن الخالدة.

نشرت في الولاية العدد 134

مقالات ذات صله