م . م . رضاء الحكيم
القيم مبادئ ومُثـُل يحملها الانسان ليرتقي عن عوالم مرت بها الانسانية جمعاء، سادت بها معاني الظلام وحكمتها شريعة الغاب، فانحطت الى مهاوي التيه والعبودية والاستبداد، حتى بعث الله تعالى رسله بالحق، موقدا قبس القيم الفاضلة المعطرة بالخلق القويم والصلاح والعدل في قلوب الخلق السوي وعقول ذوي الألباب والقلب السليم.
فروع القيم
وبهذه الرحمة الإلهية التي أتت عبر ثلاثة سبل أولها الفطرة وثانيها العقل وثالثها رسل الله تعالى وأنبياؤه والمصطفون لهذه المهمة الإلهية العظيمة، فتدعوا هذه السبل الى الركون للخير والصلاح والفضيلة ومكارم الأخلاق، فأصبحت للقيم وهي تُمارس داخل المجتمع في سلوك وأنماط منضبطة للأفعال البنّاءة للارتقاء به، منتجة ثقافة اجتماعية تخص شعب دون آخر، وهي ما تدعى هنا في هذا الجانب بـ « القيم الاجتماعية «.
كما تنضوي تحت هذه القيم الاجتماعية في الممارسة والسلوك والعادات، « القيم الأخلاقية « وهي الصفات الذاتية التي يحملها الفرد، كالصدق والأمانة والعفة والحلم والعدل والرحمة والوفاء والشجاعة والإيثار، الى آخره من أخلاقيات كريمة، يكون للمحيط الخارجي الموضوعي دورا كبيرا في نمو وانحسار تلك الصفات الأخلاقية، ويكون للدين والعقيدة دورا بالغا في تشكيلها وظهورها، أي ان « القيم الدينية « هي الأخرى ما يرسخ أو يدعم القيم الأخرى لتظهر وتنمو بين الناس والجماعات، فالصفات الحسنة والخلق الكريم والسلوك القويم باعث ديني أساسي، فالرسول الكريم محمد الموصوف بالرحمة صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله يقول :» انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق «، فمحتوى الوعي الديني أن تفرق بين الخير والشر والكذب والصدق والنزاهة والفساد والضلالة والهداية بعد أن تسمع القول فتتبع أحسنه.
ومن تلك القيم التي تمسك بيدك لتقودك نحو التحضر والمدنية الآمنة والمرفهة « القيم الجمالية « فهي الروضة التي تنمو بها الرغبات والحاجات الراقية كالفن والذوق الرفيع والأحاسيس المدهشة المؤثرة في وجدان الفرد المشبعة لرغباته السامية والشاعرية، فهي المعاني والسبل التي يحقق بها التوازن الانساني والاجتماعي السوي على المستويين العام والخاص، وان كل ما ذكرنا من قيم تصب في قيمة هي اللبنة الأساس في ذات الانسان، فتتضح للرائي قيمة أخرى هي « القيم الشخصية « المتأتية من تأثير كل القيم الآنفة الذكر محددة بذلك شكل السلوك وطبيعة الانفعالات والرغبات والميول الخاصة، أي ما يحدد السمات الشخصية، فتستقل وتتميز شخصية كل فرد عن فرد آخر، وبهذه القيم تصنف المجتمعات والشعوب في ميزان التحضر والتمدن والتخلف، وبحسب سلوكيات الفرد والأسرة والمجتمع في حياتهم اليومية وفي مواقفهم اتجاه جيرانهم وقضايا الانسانية جمعاء، ذلك المعيار الذي يضع نصب عينه مقدار ذلك العطاء والإضافات التي قد تكون إيجابية أو سلبية في جدواها وقيمها التي تجتاز مساحتها الجغرافية، أي على مستوى المنجز الحضاري.
ومن القيم الأساسية التي نجدها تضطرب في البلدان غير المستقرة والتي تعاني من الظلم والاستبداد، هي « القيم الوطنية « وتعد هذه القيم المرآة لشكل وممارسات النظام السياسي الحاكم في قربها وبعدها عن الجماهير، وتجسدها الإيجابي أو تشوهها من خلال ممارسات الفرد والتجمعات والأحزاب والتنظيمات في سلوكها العام، ومن معاييرها حب الوطن والتضحية من أجله والإخلاص للشعب والتفاني من أجل مصالحه والسعي لتطوره واعتبار مصلحة الوطن فوق كل مصلحة والميل لغيره خيانة عظمى يحاسب عليه القانون والنظام.. الى آخره من قيم الوطنية التي تبنى بها الأوطان وتعز بها الشعوب وتتقدم.
القيم في مواجهة انحدار السلطة
ان ضياع القيم عبر ترسيخ قيم بديلة أو تمويع وتشويه القيم الأصيلة عبر الممارسات السياسية السلطوية الشاذة والمنحرفة التي تعد من أكثر وأعمق وسائل التأثير السلبي على القيم، فالناس على دين ملوكها، فإيجاد نماذج منحرفة شوهاء فاسدة على سدة الحكم وفي الأماكن المرموقة التي يبحث عنها الضوء تعد الوسيلة الأقصر دربا والأكثر عمقا لقلب المجتمع على عقبيه نحو التردي والخنوع والضياع والإفساد في الأرض، فتصبح أرضية الوقوع بالضلالات والفتن خصبة لا تحتاج الا إشارة للوقوع بها.
ومن هنا تتأتى ضرورة بذل جهد استثنائي في مفترقات هذه الطرق التاريخية الحاسمة، بين الجهل والضلالة والفساد، والوعي القيمي بكل توجهاته الحضارية الإصلاحية، ولا يتم هذا دون خطاب أدبي عقائدي تنويري واعي، يمكنه التأسيس والانطلاق في مشروع حضاري يغني الانسانية جمعاء، مع مراعاة حساسية المضمون من منطلق التجربة الانسانية الذاتية والاجتماعية على الآخرين، غير متناسين زج المثل الحية للقيم العليا عبر دفع الأسوة الحسنة للتصدي لكسر تراتيبية وتكرار الصور الشاذة المنفرة بفسادها لمنح الوعي المجتمعي فرصة ومندوحة للتفكير والاقتناع ثم التيقن ان الدروب غير الدروب والطرق غير الطرق والسبل المنحرفة للنجاح والبناء والتفوق، وان النتائج اذا ما أحق الحق لن تودي الا لنتائج واحدة وخواتيم يرتضيها العدل والفضيلة أي تلك المعايير التي نادت بها القيم وتحققت عبر النظام الواعي المنصف الهادف للتقدم والرفاه.
جمال القيم الإسلامية
ولا يتم ذلك الا برؤية إسلامية للحياة وما بعدها، تتجسد في سلوك وخطاب واعي، بعلاقة الفرد بخالقه، وعلاقته بالآخرين، لا يخلو من القيم الجمالية العميقة التأثير في النفس البشرية والمرسخة للقيم الإسلامية الأساسية بالتوحيد والعدل والميعاد وما أنزل بكتب السماء من حق وصلاح ورسل، ما يعزز الإحساس بالإسلام والاقتناع بقيمه مقتربة بذلك للإنسان ومشاعره دون الابتعاد بأخذ عقله فكرا ماديا مجردا لتفسير الواقع والتأثير به.
وتنضوي قيم الجمال من منظور إسلامي الى القيم الانسانية، ذلك المنطلق والرؤية الكونية، كونها تحتضن المشاعر والتطلعات الانسانية الساعية لإشباع الروح والجسد بشكل موزون، في إطار عقلاني متحضر، في مشروع سعادة يضمن الحياة الدنيا وما بعدها، مبتعدة عن جمود المنحى المادي، المأخوذ من أصحاب الفلسفة المادية، وتفسيراتهم البعيدة عن حركة الكون الغيبية وقوانينها الفاعلة.
ان استشراء القيم المادية في المجتمعات الغربية من خلال مشاريع ثقافية وفنية وفكرية، تسعى لضرب المركز في كل شيء، من خلال فكرة أو لوحة فنية أو إعلان تجاري أو فيلم سينمائي، والغرض هو ضرب قيمة دينية عقائدية، ترتكز على مفهوم الوجود في الأديان السماوية التي تؤمن بوجود خالق واحد هو مركز كل شيء في الوجود، وبهذه القيمة المبتكرة عند هؤلاء الملحدين الماديين التي تؤمن بالفوضى والصدفة التي ينتجها العدم، والفردانية التي تشكل مجتمعاتهم العقيمة المتآكلة، الخاوية من الروح وأسباب السعادة الحقيقية،مصرين على أن يكونوا أندادا لكل القيم التي نؤمن بها وأعداء لكل منجز حضاري يمكن تحقيقه عبر قيم الإيمان والصلاح والخلق الكريم، فنصبح هدفا لأشكال الغزو الذي تعدّى حدودنا فطرق أسرتنا دون استئذان واجتاز أبوابنا عنوة دون أن يطرقها، وزحف على أفكارنا وضمائرنا ومشاعرنا خلسة، مستبدلا ثيابنا ونمط تفكيرنا وهواياتنا وطموحاتنا وفق ما يشتهي هو، وبهذا الاغتراب الذي نعيش لابد من إحياء كينونتنا وانتقاء التراث الثر والنأي عن أسباب الانحطاط، بإحياء هذه القيم العليا وزرعها في عقل ووجدان مجتمعنا، والسعي لهدم القيم الدخيلة والهدامة التي أتت عبر الغزو الثقافي الموجه ضدنا أو المنتقلة عدواه عبر الاختلاط الحضاري، أو تلك التي أتت عبر ممارسات الحكومات الفاسدة التي تناوبت على قهر المجتمع والحط من قدره عبر الممارسات الظالمة المغتصبة لحقوقه والمتسببة في تخلفه وضياعه وإزهاق قيمه الفاضلة العليا.
نشرت في الولاية العدد 134