أسئلة و ردود من وحي القرآن الكريم

د. سحر محمود جواد

شغل القرآن الكريم المنزل على الصادق الأمين (صلى الله عليه وآله) مساحة واسعة من حيث البحث والتقصي عن الحقائق والمفاهيم من قبل العديد من الباحثين على اختلاف مذاهبهم وتوجهاتهم الفكرية وكذلك الثقافية، ذلك أنه أحد الثقلين الذين أوصى بهما النبي الأكرم (صلى الله عليه واله) قبل رحيلهِ، لذا فهو يعد المحور الرئيس لاهتمام المسلمين كافة فحذي بهم التفكر الدقيق والتمعن الشديد في آياتهِ المحكمات، كما أجتهد العلماء في تفسيرهِ وذلك في محاولة جادة منهم للإجابة عن التساؤلات والشبهات الواردة حول بعض الآيات القرآنية الكريمة.

ومن الجدير بالذكر أنهُ على الرغم من تزايد الاهتمامات البحثية من قبل الباحثين والمثقفين بالقرآن الكريم وذلك لما يشهده العالم المعاصر من صحوة فكرية – إسلامية، إلا أن ذلك كان من جهة أخرى مشجعاً ومحفزاً لأعداء الانسانية والاسلام على وجه الخصوص للمزيد من الطعن في كتاب الله المنزل وآياتهِ الشريفة المنزهة في محاولة منهم لإثارة الفتن والفرقة بين صفوف المسلمين من كافة المذاهب من خلال التشكيك والتأويل وبث الشبهات حول ذلك الكتاب المبجل.
ولعل من بين الآيات القرآنية التي وردت حولها بعض الأسئلة للأغراض التي ذكرت سلفاً هي في قوله جل وعلا (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ) {آل عمران/42}، إذ جاء السؤال الاول هنا عن أسباب تكرار ذكر الاصطفاء في الآية الشريفة.
وتكمن الإجابة عن ذلك التساؤل في أن الأول غير متعدِّ، أما الثاني فهو متعدِّ بحرف الجر، إذ إن الاول جاء اشارة لقبولها خدمة بيت الله على الرغم من أنها أنثى كما في قولهِ تعالى(فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ)(آل عمران 37)، في حين أن الإصطفاء الثاني قد ميزها على النساء لولادتها المسيح عيسى (عليه السلام) من دون زوج.
وفيما يتعلق بالسؤال الثاني حول الآية المباركة نفسها هل أن في اصطفاء السيدة مريم (عليها السلام) على نساء العالمين دلالة في تفضيلها على فاطمة الزهراء (صلوات الله وسلامه) عليها مع معرفة أنهُ قد ورد في شأنها (عليها السلام) أنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين.
والإجابة، أن الاصطفاء هنا لا يُشير على التفضيل من كافة الجهات لكون أن الاصطفاء يعني الاختيار والتميّز لولادتها عيسى (عليه السلام) من دون الزواج (الارتباط بزوج) وهذا لا يعني أنها في مقام أفضل من نساء العالمين جميعاً، إذ استعملت كلمة الاصطفاء في القرآن للدلالة على الاختيار وليس التفضيل كما في قوله الكريم إِنَّ الله اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ..{البقرة/132}، وأيضاً في آية أخرى يخاطب بها موسى (عليه السلام) (اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي)..{الأعراف/144}، اشارة الى تميّزهِ على الناس واختياره لإداء الرسالة السماوية من دون الحاجة الى تبيان فضلهِ عليهم.
فضلاً عما تقدم، فإنهُ لو أُفترض أن القصد من اصطفاء مريم (عليها السلام) تفضيلها، فأنهُ يراد من ذلك اختيارها وتفضيلها على نساء عالمها فقط نظيراً لما جاء في سورة الانعام المباركة – بعد ذكر نبي الله ابراهيم (عليه السلام) وذريتهِ الشريفة – (وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِين)، فإن المقصود من ذلك ليس تفضيلاً لكل واحدٍ منهم على كل العالمين من الأولين الى الآخرين بمن في ذلك أنبياء الله الآخرين وكذلك نبي الرحمة محمد (صلى الله عليه وآلة) بل إنهُ اشارة الى تفضيل كل نبي مما ذكر في الآية القرآنية على العالمين في زمانهِ، وهنا نعود للحديث عن مريم (عليها السلام) انما فضلت على نساء عالمها وحسب. فقد بينت العديد من النصوص تفضيل فاطمة الزهراء (عليها أفضل الصلاة والسلام) على مريم عليها السلام، وما يؤكد ذلك ما ورد على لسان نبينا الكريم (صلى الله عليه وآلة) (فاطمة سيدة نساء العالمين وأهل الجنة).
ومما تقدم يتضح جليا الموقف من الآيات البينات التي تتحدث عن تفضيل بني إسرائيل على بقية الناس، بأن المراد أو المقصود من ذلك تميّزهم ببعض الصفات على سبيل المثال وفرة انبياء الله بينهم، كما إنه إذ حمل على التفضيل على رفعه مقامهم وعلو شأنهم فإن ذلك يعني تفضيلهم على أمم زمانهم فحسب، وليس على كل العالمين والملائكة أيضا. والله أعلم
وفي النهاية، أسال الباري عزّ وجل قبول هذا العمل المتواضع وأن يجعله في ميزان أعمالي، وأن انتفع به يوم لا ينفع مال ولا بنون، وينتفع به كل من قرأه، والحمد لله رب العالمين

نشرت في الولاية العدد 135

مقالات ذات صله