غائية الأمثال وحكمة جوهرها


عذراء عبد الجبار الياسري

يعد ضرب المثل من أكثر أساليب التعبير الشعبية انتشاراً وشيوعا حيث لا تخلو منها اي ثقافة أمة على وجه الأرض ، مشاعة بوضوح في كل مراحل التطور الحضاري عبر التأريخ ، إذ نجدها تعكس قيم وأفكار ومشاعر الشعوب ولا نبالغ إذا قلنا أنها خلاصة تجارب هذه الشعوب عبر التأريخ ، ولا تغادر اي طبقة من طبقات الشعوب وشرائحها ، فهي تجسد أفكار وتقاليد وتصورات تلك الشعوب وعاداتها وتقاليدها ومعتقداتها ومعظم مظاهر حياتها في صورة حية وفي دلالة إنسانية شاملة ، فهي بذلك عصارة حكمة الشعوب وتجربتها الحياتية الواعية ، فالمثل قصة تعبيرية تعليمية وجيزة تكتنز جمال الموقف والعبرة بشكل مكثف رائع البيان .
وكثيراً ما نسمع عن الحكم والامثال التي تقال في مناسبات عدة تشبيهات او عبارات ذات بديهة معلومة واضحة ، فتكون في أحد غاياتها تعليمية بالنسبة الينا ، فهي تزيدنا خبرة على خبراتنا وحكمة وحنكة في التعامل مع الاخرين ومشذبة لذواتنا موجهة لخطانا إذا ما تلكأنا أو تحيرنا في وجهتنا ساعة ضلالة أو شطط أو خطأ تبنيناه.

ولا يفوتنا أن نضع بين أيديكم ما قاله إبراهيم الفارابي الذي عرف المثل بقوله: « المثل ما تراضاه العامة والخاصة في لفظه ومعناه ، حتى ابتذلوه فيما بينهم وفاهوا به في السراء والضراء ، واستدروا به الممتنع من الدر ، ووصلوا به إلى المطالب القصية ، وتفرجوا به عن الكرب والمكربة ، وهو من أبلغ الحكمة لأن الناس لا يجتمعون على ناقص أو مقصر في الجودة أو غير مبالغ في بلوغ المدى في النفاسة »
وجهة الأمثال ونوعها
والمثل على أنواع مختلفة الوجهة والغرض ، فهناك الأمثال التي تجسد الحكمة والموعظة الحسنة ، وهي من أنفع الأمثال وأجلها ، فهذه قد تكون مشتقة أو مأخوذة من آية كريمة أو حديث قدسي أو حديث نبوي شريف ، أو كلام لأحد المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) ، أو أحد الحكماء والمفكرين ، أو قد تكون مستنبطة من بيت شعر لشاعر ما ، إذا ما علمنا ان أحد أركان الشعر عند العرب هو تناوله للحكمة والأمثال في أسلوب شعري متين مقروض وفق الصياغات الجارية عندهم ، والأمثال قد تتناول مدحا أو ذما أو اعتذارا أو تهكما الى غير ذلك من الأغراض المختلفة .
وغالبا ما تأتي الأمثال من موقف أو قصة أو واقعة، لها أثرها في نفوس الناس ، فغالبا ما يكون لكل مثل قصة ، هي سبب ولادته ونشأته ، وإذا أردنا أن نأتي بشواهد من تلك الأمثال ، فإننا نحتاج الى مجلدات لجمعها ، كما فعل صاحب كتاب « مجمع الأمثال « لصاحبه أبو الفضل أحمد بن محمد بن إبراهيم الميداني النيسابوري ، وغيرها من المؤلفات التي تخص هذا الغرض او المبحث ، ومنها كتب ومؤلفات للأمثال الشعبية التي لا تقل أهمية عن سابقتها ، بل قد تزيد عليها فهي في متناول كل فرد تسري في حياة المجتمعات كالأنفاس والخطى ، ولا يخلو حديث بين شخصين إلا وكانت الأمثال طرفا ثالثا يتوكأ عليه كل حديث جميل بالغ البيان والحكمة.
المثل حجة في القرآن الكريم
وقد تناول القرآن الكريم العديد من الأمثال في محكم كتابه إذ اعتبر عند اللغويين والمفسرين فنا من فنون التعبير البليغ والمؤثر الذي يصل الى الأفكار بأسلوب غني ثر ومختصر ، وابلغ الله تعالى غايته في هذا المقصد بقوله جل وعلا : (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ)(العنكبوت/43) وفي موضع آخر في كتابه العزيز قال تعالى : وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(الحشر/21) ، وبهذا تكون الأمثال غاية أهل العقل والمنطق السليم والتدبر في أمور الدنيا والآخرة ـ وفق منهج إلهي مضاء بالإرشاد والتقويم والنصح وسداد الرأي .
قد تأتي الامثال في القران بمعنى الوصف والتشبيه لتقريب المعنى ولتبيان الأثر والحكمة من القول الحكيم ، كما في قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)(العنكبوت/41) ، وفي قول حكيم آخر قال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(الجمعة/5) ، وقد وردت كلمة الأمثال بالقرآن الكريم مرات عدة ، وإن من فوائد الأمثال في القران الكريم.. التذكير والوعظ ، الحث والزجر ، الاعتبار والتذكير ، تقريب المراد للعقل ، فبهذا اللون من ألوان الهداية إغراء للنفوس بالخير والبر ومنع ونهي عن الشر والإثم والعدوان .
أمثال الوجه الآخر للعملة
يقول إبراهيم النظام : يجتمع في المثل أربع لا تجتمع في غيره من الكلام ، إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه وجودة الكناية ، وكما عند العرب فإن الأمثال عرفتها مختلف شعوب العالم من العرب والفرس والكرد وغيرهم من الأمم والشعوب وانتشرت عند الجاهلية واستمرت الى ما بعد ظهور الإسلام ولاتزال الأمثال قائمة الى يومنا هذا ،وللأمثال فوائد وثمرات يجنيها متدبرها والمتمعن في دلالاتها، فالأمثال تؤثر أكثر من الكلام المجرد حيث تقرب الصورة وتجلب الانتباه وتسخر الوهم للعقل وترفع الحجاب عن القلوب الغافلة وتؤلف المطلوب وتقربه ، ولكن وكما ان للأمثال هذه القدرة والسطوة الإيجابية فاننا نجد أيضا فيها جانبا مظلما سلبي الأثر والمضمون ، فقد يدعو المثل الى ما يخالف الشرع الإسلامي وجنبة الخير والصلاح لدى المجتمع ، فتحث بعض الأمثال مثلا تحليل بعض المعاصي ، فيقول المثل ( ساعة لك وساعة لربك ) وهذا يجانب الشرع والمنطق السليم، ويقول مثل آخر (المكتوب ما منه مهروب) وهذا يطابق ما ذهب اليه الجبرية ، وهو أمر يخالف عقيدتنا ، وآخر يدعو الى مفاهيم فيها تطاول على الخالق جل وعلا في قضايا الرزق والحظ والقسمة، خارجة عما يريد الله وما أمر به ، وأمثال تذم أصحاب المهن قد تكون مأخوذة من قصص عابرة أو نقلت عن شخوص مهمين خانهم وعيهم وتجربتهم الحياتية ليقولوا أقوالا لا تقع في نصابها الصحيح، وأمثال قد تدعو للأنانية أو الى الجبن والتغافل عن الأخطاء والجرائم الكبيرة أو التعالي والتكبر واحتقار الناس ، ومثل يقول (عالزاد ماكو سلام) وهو أمر لم يرد لا من كتاب ألله ولا نبي الرحمة (صلى الله عليه وآله) ولا آل البيت الأطهار (سلام الله عليهم) ، وأمثال أخرى تساق لتخريب العلاقات وبناء قوالب مشوهة في المجتمع ، كعلاقة زوجة الإبن بامه (عمتها) ، وغيرها من الأمور التي يجب تمحيصها قبل إطلاق العنان لها لتسري في مفاهيم أفراد المجتمع كأنها بديهيات وحقائق دامغة.

نشرت في الولاية العدد 135

مقالات ذات صله