م.م. رضاء الحكيم
حاشا لله تعالى أن تكون أول كلمة ينزلها هداية ورحمة للعالمين على قلب نبيه الأمي (صلى الله عليه وآله) خالية من مغزى عظيم ومعنى فائق القيمة ، كانت تلك كلمة (إقرأ) ، وليتم سبحانه الحكيم المتعالي تلك الغائية المدهشة المستثيرة في أمة جاهلة أن تحمل سورة أخرى اسم «القلم» ، فيقسم به ، ولا يقسم الله جلت قدرته بشيء إلا أن يكون عظيم شأن أو منزلة أو قيمة ، وحينما تكون معجزة خاتم الأديان، وطوق نجاة البشرية التي انحدرت نحو مهاوي الجاهلية والضلالة والخسران ، مجرد (كتاب)، حمل كلمات الحكيم الرحمن الرحيم الى الناس لينتشلهم من عبودية الجهل والظلم وقسوة الفقر وتمادي بني آدم في انتهاك إخوتهم ونشر الخراب على الأرض .
وكما جاء في (الكافي) حينما خلق الله تعالى العقل ، قال : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر، وإياك أنهى وإياك أعاقب، وإياك أثيب.
وللعقل هذا المخلوق الأحب عند الله عزوجل ، زاد ، ينمو به ويقوى ويشتد هو المعرفة التي تكون أهم مواردها (القراءة) ، ذلك المنهج أو السلوك الذي يختصر لك التجارب الإنسانية والعلوم المعرفية وكل الأفكار ذات القيمة العليا في كل المجالات ، وبهذا تكون القراءة وما نحصل عليه من معارف ، غاية وسبيلا ، جوهريا في الحياة ، وضرورة لحياة مسؤولة قادرة على مسك أطراف السعادة بلين ويسر ورضى ، وبهذا الصدد يقول الإمام الرضا (عليه السلام) : صديق كل امرء عقله ، وعدوه جهله . فالقراءة هي كسب لأصدقاء جدد نافعين مؤازرين لنا في الحياة ، والنأي عنها يعني ارتفاع حصيلة الأعداء وقوة شوكة لهم ضدك .
ولادة المعاني والدلالات
في بدايات هبوط الانسان الى الأرض ، منذ آدم (عليه السلام) وحواء ومن بعد ذريتهما ، اقتضت ، في بديهيات عقله أن يسجل تجاربه ومشاهداته ، أن يخترع وسيلة للتعبير عما يخاف منه أو يؤثر فيه ، ما يعتريه من وساوس وقهر وفرح ، كيلا تُنسى بعد حين ، فقد علم من خلال تكرار التجربة انه ينسى ، وكل تلك المعلومات والانطباعات تضيع وتضمحل ، وللحفاظ على الأسماء والشخوص والمشاهدات والتحليلات والذكريات وازدياد وتراكم الحاجات كان لابد من اختراع الكتابة ، فبدأ مشواره هذا ، رموزا وصورا وإشارات ، ولكن حينما تطورت وتعقدت التجمعات البشرية ، فنشأت المدن وقادة المجتمعات وزعماء القبائل والمناطق، أصبح لزاما وجود أوراق للكتابة لضبط وتقنين وحصر دواوين النظام الحاكم آنذاك على بساطته ، حتى أصبحت القراءة والكتابة جزءً مهماً في الحياة ، بل مهيمنا ولا سيما بعد تطور وسائل الاتصال والتعبير بشكل مذهل ، لا يكاد المرء يهتم بالقراءة رغم تطور وتعدد وسائل الاتصال فضلا عن أدوات التعبير بشتى أشكالها ومنافذها وطرقها الانسانية والفنية والاجتماعية والعلمية ، فأصبحت الاتصالات نظما تحتكم الى التكنلوجيا ، وصناعة تحتكرها الدول المتقدمة .
القراءة في مذاهب أخرى
قد يرد تساؤل على الذهن ، هل الغاية من القراءة هي قصد المعرفة ، والفضول لكشف المجهول أو للمتعة والتسلية ؟ وهل تستوجب وجود حروف أو كلمات لتتم القراءة بمعناها المطلق المتعارف عليه ؟ سؤال يذهب بك بعيدا الى مناطق سبق وان قرأتها وفهمت لغتها واشاراتها ومقاصدها ورموزها التي قد تكون مشفّرة أو محيرة كالألغاز أو واضحة دون أن تكون تلك متكونة من حروف وكلمات وجمل مفيدة ، كما يتعارف عليه ، في المعنى المرسل للقراءة ، فنحن نقرأ الجمل والملاحظات والصحف والكتب والرسائل والبحوث والأعمال الأدبية ( ومنها الشعر ) ، فتارة نفهم بشكل مباشر المعنى والمقصود من تلك الكتابة ، وتارة أخرى نحتاج الى التحليل والبحث والاستغراق في استخراج ما تخفيه الرموز والدلالات والاشارات والتراكيب اللغوية ، لنفهم غائية ذلك النص في كشف معانيه ، والتي ترسم غالبا بشكل فني وبنسق جمالي يشد المتلقي اليه ليحدث الأثر المرجو من صياغة تلك الجمل والكلمات .
وبنفس الأسلوب العقلي والوجداني يمكّننا مثلا من قراءة وتحليل ـ في انزياح واستخدام لمعنى القراءة مشاع ـ لوحة فنية من شتى المذاهب والطرق الفنية التي عرفتها الانسانية ، أو مشهد انساني أو طبيعي في صورة قد التقطت هنا أو هناك ، أو إعلان وضع على قارعة الطريق أو على شاشة التلفاز لأي سبب أو غرض سواء كان مراد منه الترويج أو التأثير النفسي أو الدعائي ، ويمكن أن تكون تلك القراءة التحليلية لغرض الاستمتاع الذهني والنفسي أيضا وذلك بالنظر الى كل المخلوقات والموجودات في الكون ، من طبيعة أبدعها الله الخلاق على الأرض ، أو تلك التي أودعها الله في هذا الكون الفسيح .. جلت قدرته .. ويمكن أن تكون بالنظر الى الإنسان هذا الخلق الذي برئ في أحسن تقويم ، فتلك النظرة الواعية التي يلقيها الإنسان على هذا الوجود العظيم ، الى الخير والشر فيه ، والجمال والقبح ، والى الكثير من الملموسات والمحسوسات في حياته ، والتي أصبحت تترى يوميا في مشاهداته وممارساته وتتقلب في كل لحظة في قاموس ذاكرته وبياناته ، لتصبح ركاما معرفيا يضع الإنسان في خانة من الرقي عالية مقارنة بكل مراحل التاريخ البشري .
القراءة أسلوب حياة
مما لا ريب فيه أن القراءة ممارسة حياتية نقوم بها إما بدوافع ذاتية أو قد نجبر عليها لأسباب أصبحت معروفة للجميع ، ولا سيما في المجتمعات المتحضرة والمدنية ، في المدارس والجامعات والمعاهد أي المؤسسات التربوية والتعليمية بشتى أنواعها وطرقها ومستوياتها ، أو قد تكون طوعية لدوافع متعددة نذكر منها القراءة للتقرب لله رب العالمين ، أو للاضطلاع بعلوم الدين تفقها وإحاطة بالعقيدة من كل جوانبها فضلا عن إيجاد إجابات شرعية في مسائل العبادة وعلى الأخص في مستجداتها أثر تطور وتعقد الحياة ، ويعد هذا المنحى البحثي في طلب العلم من أولويات الواجبات التي حث عليها دين الإسلام في كتاب الله العزيز وعلى لسان النبي محمد المصطفى (صلى ألله عليه وآله) وبعده آل بيته وأئمة الهدى سلام ألله عليهم أجمعين ، ومن الطبيعي أن يكون هذا عبر القراءة حفظا واستنباطا من خلالها .
ومن الدوافع المهمة أيضا للقراءة الطوعية المتعة في اغتراف المعرفة عبر البحث عن المجهول والمكتشف وغير المكتشف ، وتتضاعف تلك المتعة في القراءة عند التوجه نحو النتاجات الأدبية والفنية لما فيها من سحر وجمال يأسر الإحساس والشعور وهو يسري الى العقل ويتغلغل الى الوجدان الانساني في نشوة وحبور لا نظير له . وان الاندفاع نحو دائرة الوعي بالقراءة المستمرة والمثابرة الواعية لمستجدات الإصدارات الفكرية تجعل من المرء كيانا مختلفا ، أكثر تطورا وأقوى حضورا وأقدر مواجهة على صعوبات الحياة وأزماتها ، فالقراءة هي أهم عوامل بناء الذات المتفوقة في عموم المجتمعات ، وهي الهالة المضيأة التي تدعو الآخرين لتقديم الاحترام والتقدير أينما حل وارتحل.
لذا يصبح من الواجب على المجتمع على مختلف طبقاته ورتبه ، أي من الفرد الى الأسرة والمجتمع ومن ثمة الدولة أن تحث وتسعى نحو خلق فضاء للقراءة ، وعبر مختلف الوسائل والطرق المحفزة والمشجعة على القراءة وطلب المعرفة والتأدب ، لتصبح فيما بعد القراءة أسلوب حياة ، يأخذ بالإنسان نحو الرقي والتفوق ، والأمة نحو التحضر ، وبذلك تتجاوز الشعوب الكثير من المآسي والخسارات والكلف المادية لضبط إيقاع الحياة المدنية والخلاص من حالات التجاوز على النظام وخفض معدلات الجريمة، كعارض جانبي لتطور الوعي الإجتماعي والثقافي ، فضلا عن الفوز في مضمار التقدم العلمي والثقافي إزاء الشعوب المتحضرة والمتقدمة .
نشرت في الولاية العدد 135