د. علي مجيد البديري
يقفُ الإمامُ عليٌّ عليه السلام في خُطبه قارئاً استثنائياً للمادةِ التاريخيَّةِ، غيرَ منفصِلٍ عنها تماماً، فهو جزءٌ من بعضِها، وراصدٌ قريبٌ من بعضِها الآخر، وفي الحالتينِ يَصوغ موقفَه ووعيَه عَبر نصٍ مكتنزٍ بالمضامينِ والأبعادِ المَعرفيةِ المُختلفة.
عندما يختار الإمام عليه السلام قراءةَ حدثٍ ماضٍ فإنّه يحرصُ على أنْ يكونَ ذلك ملازماً للحاضرِ الذي هو في حقيقتهِ الباعثُ والموجهُ في هذهِ القراءة، وهو بيانٌ مُهم جداً يحددُ طبيعةَ القراءةِ للحدثِ الماضِي والهيأة التي يجبُ أنْ تكونَ عليها، فلا هي من قبيلِ التذكّر بمعناه الذي يقابلُه النسيانُ فيه، بل هو الاستحضارُ على نحوٍ مُتصلٍ للماضي في الرَّاهن، والتعاملُ معه بوصفهِ جزءاً فاعلاً في الحَياة. من هنا كانتِ المادةُ التاريخيةُ حاضرةً بوضوحٍ في نسيجِ الخُطبة، فهي تُسبغُ على النَّص شكلَه المُناسب، وتؤثر بشكلٍ كبيرٍ في لغتِهِ ونظامِهِ وتراتبِ أجزائِهِ، بمعنى أنّ المادةَ التاريخية تؤدّي دوراً وظيفياً في النّص، وليستْ مُجرد رافدٍ بسيطٍ من روافدَ مُختلفة.
مِن الطرائقِ التي اعتمدتْها الخُطبُ في التعاملِ مع الواقعِ وأحداثهِ، التسجيلُ والوصفُ والتحليلُ؛ إذ تجتمعُ فيها قراءةُ التاريخي بعدَ توثيقِهِ، وتحويلهِ إلى مادةٍ أساسيةٍ ومكوّن فاعلٍ في النَّص الأدبي، مع المُحافظةِ على التوازنِ في عمليةِ التضايفِ هذه؛ فلا تطغى المادةُ التاريخيّة بطبيعتِها الوثائقيةِ ولغتها العلميةِ المباشرةِ على خصوصيةِ النصِّ الأدبي البنائية. وتعوِّلُ الخطبة على الإفادةِ من طاقةِ اللغةِ وشعريَّتِها في التعبيرِ عن التاريخيّ وإعادةِ تشكيلِه من جديد، فضلاً عن الإفادةِ من تقنياتِ السَّرد وطرائقِهِ وأنماطِهِ في هذا التَّشكيل.
مِن ذلك قولُه في خطبة يستنهضُ بها الناسَ لمواجهةِ جيشِ مُعاوية الذي غزا الأنبار:
((.. وَهَذَا أَخُو غَامِدٍ [وَ] قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الْأَنْبَارَ وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ وَأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالْأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلُبَهَا وَقَلَائِدَهَا وَرُعُثَهَا مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلَّا بِالِاسْتِرْجَاعِ وَالِاسْتِرْحَامِ ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلًا مِنْهُمْ كَلْمٌ وَلَا أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً فَيَا عَجَباً عَجَباً وَاللَّهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيَجْلِبُ الْهَمَّ مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ ..))(نهج البلاغة : الخطبة رقم: 27)
هنا يعكسُ بناءُ الوَصف لمكوناتِ الحدثِ التاريخيّ، عمقَ الرؤيةِ لدى الإمام عليه السلام، فحرصُهُ على تقديمِ وصفٍ مُتوازنٍ يحضُر في التفصيلِ بلغةٍ مُوجزةٍ ومكثَّفة يشكِّل مَلمحاً أصيلاً من ملامحِ رؤيةِ الإمامِ النافذةِ وشخصيتهِ المُستوعبة لإحداثِ عصرِه، فذكرُ التفاصيل على هذا النحو جاء لغرضِ إثارة المتلقي وتحريكِ همَّتهِ واستنهاضِه، فضلاً عن إيقافهِ أمامَ فداحةِ الحدث وبشاعتهِ عبر صورةٍ مؤلمةٍ تتعلّق بهتكِ ستورِ المُخدرات ونهبِ البلدةِ، واكتفاءِ الناسِ بالتفرج والخنوع، وتبلغُ مرارةُ الموقفِ حدَّها الأقصى لدى الإمام ليصوغ المفارقةَ السوداءَ المبكية في صورةِ اجتماع أهلِ الباطلِ على باطلِهم وتفرّق أهلِ الحقِّ عن حقِّهم .
وعلى الرَّغمِ من شدةِ حضورِ ذاتِ الإمامِ بوصفهِ مُنتجاً للنَّص وراصداً للحدثِ التاريخي، نجدُ أنّ بعضَ النصوصِ تتجاوزُ حدودَ القراءةِ الخاصَّة للمادةِ التاريخيةِ إلى أنْ تكونَ وثيقةً مهمةً، تسجِّل حدثاً بالغَ الخُطورة في حياةِ الإسلامِ، تترتبُ عليه انعطافاتٌ حادّةٌ في مَسيرتِهِ في المُستقبل، فكانتْ بصيرةُ الإمام عليه السلام واستشرافهِ للقادمِ من الأحوالِ والتحولاتِ تحتِّمُ الحرصَ على دقَّة التوثيقِ، وتنبهُ المُتلقي بشكلٍ غير مباشرٍ إلى ضرورةِ اعتمادِ المقاييسِ العلميةِ في هذا الفعلِ المُهم. وغيرُ خافيةٍ صعوبةُ المحافظةِ على وحدةِ المسافةِ ما بينَ التوثيقِ والتَّحليلِ وصياغةِ الموقفِ في نصٍّ واحدٍ. وهو أمرٌ حقَّقهُ الإمامُ عليه السلام في أغلب نصوصِ نهج البلاغةِ التي وظَّفتْ الحدثَ التاريخيَّ وقرأتهُ عبر موقفٍ نموذجيّ مُناسبٍ، ومنها قولُه عليه السلام في الخطبة المُسماةِ بالشقشقية:
((مَا رَاعَنِي إِلَّا وَالنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ وَشُقَّ عِطْفَايَ مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَمَرَقَتْ أُخْرَى وَقَسَطَ آخَرُونَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ بَلَى وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا وَلَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا)) (نهج البلاغة: الخطبة رقم 3)
هنا يقفُ الإمامُ حاضراً بشكلٍ فعليٍّ في المَشهد، إذ ليسَ هناك راوٍ آخر غيرُه، فهو الرَّاصد والمُشارك في وقتٍ واحد، هو متلقٍ وقارئ قبلاً، بطريقةٍ يتمُّ فيها التداخل ما بينَ الوظائف المُختلفة، بما يحققُ حركيّة الرؤيةِ والوعي بما جرى ويَجري من الأحداثِ الكُبرى. فليسَ في التاريخ حدثٌ قليلَ الأهمية، فالحدثُ المحدودُ أثرُه زمانياً أو مَكانياً يبقى مُكوناً من مكوناتِ التاريخ، ينبضُ بالحياة، وقد تنفَّس هواءَها، ولا بدَّ من قراءتهِ وتأملِهِ والإنصاتِ لما يقوله. وفي قراءتهِ يحرصُ الإمام عليه السلام ألا يفارقَ العِظة، عبر التمثَّل بآياتِ القرآنِ الكريم، لكي تتجلّى تفاصيلُ المشهدِ بوضوحٍ أكبر، فضلاً عن أنَّ وصفَ الحدثِ بطريقةٍ لا تخلو من توتّرٍ درامي يعمِّقُ من ملامحِ الشّخوص، ويجسّدُ بشكلٍ إيحائي غير مباشرٍ الانفعالاتِ المُصاحبة لهذا المَشهد، ومدى تفاعلِ شخوصِه معه، ويشيرُ على نحوٍ ما إلى الملابساتِ والأفعال التي صاحبتِ المشهدَ أو سبقته. وفي النّهاية لا يقفُ دورُ توثيقِ الحدثِ التاريخي هنا وقراءتهِ عندَ حدود تسجيلِهِ، فهو لا ينفصلُ عن ما يتضمّنُه من أبعادٍ عقديةٍ تتعلقُ بالإمامة وما حدثَ بعدَ وفاةِ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أحداثٍ ومواقفَ خَطيرةٍ.
لا يجانبُ القارئُ الصوابَ إذا ما انتهى من تأمّلِ خُطبِ أميرِ المؤمنينَ عليه السلام وسجَّلَ نتيجةً مفادُها: أنَّ مِن مزايا هذه الخُطب غناها بالرَّصدِ التاريخي للحدثِ الإسلاميّ في فترةٍ هي من أهمِّ فتراتِ بداياتِ الإسلام، بعينٍ توثِّقُ وتقرأُ وتُحللُ في آنٍ واحد، وهنا يكتَملُ مَعنى البيانِ بأجلَى صِورهِ وتحقّقاتِهِ لدى أميرِ البَيانِ عليهِ السّلام.
نشرت في الولاية العدد 135