الإبل بين (لغة القرآن و نهج البلاغة)

د. سحر ناجي فاضل المشهدي

كان للحيوان في حياة العرب مكانة بارزة، إذ جاءت أغلب قصائدهم ذاكرة له وتفنّنوا في بيان صفاته و سرعته، و في بعض الأحيان ربطوا التفاؤل والتشاؤم في كثيرٍ من أنواعه، ومن بين هذه الحيوانات: (الإبل)، وهو أكثر أسماء الحيوانات استعمالاً و تنوعاً.
ذكر في القرآن الكريم بتسميات عديدة منها: (الناقة، العير، الجمل، الهيم، البعير، البُدُن، الأنعام، البحيرة، السائبة، الوصيلة، الحام، العشار).
كما تستعمل الإبل في التنقل وحمل الأمتعة والأثقال، وكانت تمهر به نساء العرب، ويتاجر به، وهو من أنفس أموال العرب التي تُضرب به الأمثال، إحتلّ مكانة متميّزة في قصائد العرب الجاهلية؛ لصبره و تحمّله المشاق والأثقال.

جاء الخطاب العلوي في النهج مقارباً للمفهوم القرآني، و قد وصف أغلب مواضع استعمالاته بتشبيهات مجازية، وسنحاول أن نسلطَ الضوءَ على ماتضمنه النهج من رسم صور للفظ (الإبل)، إذ ضرب به المثل في صفحات عديدة كان في أغلبها للتشبيه بها في ضرب المثل أو العبرة أو العظة فتنوّعت مواضع مجيئه بين المدح و الذم، وفي أغلبها كان الذم الصفة الغالبة لها.

الإبل في القرآن الكريم:
قال ابن فارس: الهمزة والباء واللام بناء على أصول ثلاثة: على الإبل، وعلى الاجتزاء، وعلى الثِّقل، وعلى الغلبة. قال الخليل: الإبل معروفة وإبل مؤبلّة جُعلت قطيعاً قطيعاً، وذلك نعتُ في الإبل خاصّة(1)، وهي الجمال، والنُّوق: لا واحد له من لفظه، وجمعه آبال(2).
و قيل: «الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة» أي أن المرضي المنتجب من الناس في عزّة وجوده مثله مثل النجيب من الإبل ممّن هو قوي على الأسفار(3).
و قد تكرر مرتين في القرآن الكريم إذ جاء ذكره في قوله تعالى: «أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ»(4)
من الجدير بالذكر أنّ في خلقها إعجازاً مقارباً لخلق السماء والأرض، فقد قدّم خلق الإبل على خلق السماء ورفع الجبال وسطح الأرض، ففيه بيان عجيب لهذا الحيوان فهو يلين للحمل الثقيل، وفي الآية بيان باستفهام إنكاري لقدرته تعالى في إحكام صنعه وفيه محل قدرته بتشبيهه من حياتهم اليومية، إذ أنّها كانت تعيش معهم و من حولهم.
كما نجد في قوله تعالى: «وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ»(5)
أمّا الناقة فقد وردت كآية من دلائل قدرته تعالى لقوم صالح (عليه السّلام)، وذلك في قوله تعالى: «إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ»(6).

الإبل في نهج البلاغة:
أما في الاستعمال العلوي فقد جاء وصفه في كلام إمامنا امير المؤمنين (عليه السّلام) ذماً في تشبيه أهل الكوفة بقوله: «ما أَنْتُمْ إِلاَّ كَإِبِل ضَلَّ رُعَاتُهَا، فَكُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِب انْتَشَرَتْ مِن آخَرَ»(7)
و لفظ الإبل هنا دلالة على الإطلاق إذ جاء منكراً، ووصفت بأنّها «ضلّ رعاتها» وهو وصف بالجملة الفعلية فأصبحت كأنّها نكرة مقصودة، وهو أسلوب فيه ذمٌّ و توبيخ، وسياق المقام بعد رجوعه من أمر الخوارج تعذّروا بكثرة الجراح و شدّة البرد، ووجه الشبه بينهم وبين الإبل هو: (اختلاف أهواءهم و تشتّت آراءهم فلا يجتمعون على نظم صلاح معاشهم ومعادهم. فنزّلهم منزلة المنكرين، فما أنتم إلّا كعجاجة إبل أو قطيعة غنم، والصورة بيانية فيها دلالة عظيمة فالمبني هو المقابل لما دلّ عليه المشبه به و قصر الموصوف المشبه (أنتم) على الصفة أو المشبه به (الإبل التي ضلّ رعاتها) وهو قصر افرادي، لأنّه في مقام التوبيخ.
و في مقام آخر شبّه أهل الشام بـ(أشباه الإبل) قائلا: «تربتْ أيديكم يا أشباه الإبلِ غابَ عنها رُعاتها كلما جُمعَت من جانبٍ تفرقتْ من آخرٍ»(8)، ووجه الشبه بينهما (عدم انتظام أمورهم بفقد الراعي أي الناظم و المدبّر)، فغياب الرّعاة يدلُّ على تيهها فهي ترعى مسافات بعيدة لوحدها كالتائهة، فناداهم بنداء البعيد (يا) وجعل المنادى (أشباه الإبل) وليست الإبل نفسها؛ لاحتقار حالهم، ومجيء لفظ (رعاة) بصيغة الجمع؛ للدلالة على كثرتها فهي قطعان كثيرة وتشبيهها تمثيلي سلبي لتباطئهم عن نصرة الحق؛ فشبّه تفرّقهم واضطرابهم ونفورهم بإبلٍ غاب عنها رعاتها وهو وصف في غاية التقريع والتوبيخ يصل حد الهجاء، ثم تبعه بالدعاء عليهم بلفظ (تربت أيديكم) و هو لفظ مجازي يعني أفقرهم الله حتى لصقوا بالتراب(9). أو هو دعاء عليهم اي لا أصابكم الخير.
وفي مقام آخر جاء هذا اللفظ في سياق المادح لأصحابه بصفين قائلا: «فتداكوا عليّ تداك الإبلِ الهيمِ يوم وردها قد أرسلها راعيها، وخلعت مثانيها»(10)، والدك: الدق، ودكه: إذا ضربه وسوّاه بالأرض(11)، ومنه قوله تعالى: «وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً»
و جعلت بمنزلة الأرض اللينة، والتداك مأخوذ منه، والهيم العطاش، الورد: الشرب، ويوم وردها: يوم حضورها لشرب الماء، وهو إشارة لأصحاب الإمام(عليه السلام) في صفّين لما طال منعهم من قتال أهل الشام فوصف زحامهم عليه بالإبل العطاش حين يطلقها رعاتها من مثنيها يوم ورد الماء، وتشبيهه هنا من المحسوس بالمحسوس فزحامهم شديد ودك الإبل العطاش بعضها بعضاً على الحياض للشرب فالبيعة واقعة ليس لأحد أن يتخلّف عنها.
و إلى المعنى نفسه أشار ابن أبي الحديد إلى أنّ كلامه (عليه السّلام) كناية عن شدة زحامهم فاجتماعهم كتزاحم الإبل فأطلقها راعيها و خلع عقالها لفرط ما شاهده و شدة زحامهم.
و الإبل الهيم: المطرودة التي ترمى عن حياضها، فرسم صورة لأصحابه تكشف عن شجاعتهم إذ غدوا كالإبل التي أنهكها العطش فأرادت أن ترتوي من المياه إلاّ أنّها رميت بسهم و أبعدت، فجموعهم متلاحقة و متزاحمة بدون راع أو مرشد كقطيع إبل عطشى إنطلقت يوم شربها إلى مورد الماء فتركها راعيها من دون قائد أو مرشد.

الهوامش:
1) مقاييس اللغة: 1 / 39 ـ 40، و ظ: المفردات: 1 / 9.
2) ظ: المعجم الوسيط: 3
3) ظ: النهاية في غريب الحديث و الأثر: 15
4) الغاشية / 17 ـ 20
5) الأنعام / 144
6) القمر / 27
7) نهج البلاغة: خ 34، 40
8) نهج البلاغة: خ 97، 99.
9) ظ: اسلوب علي بن ابي طالب في خطبه الحربية: علي احمد عمرلن: 322
10) نهج البلاغة: خ 54، 50.
11) ظ: مختار الصحاح: 130.

المصادر:
* القرآن الكريم.
* اسلوب علي بن ابي طالب في خطبه الحربية: د. علي احمد عمران، ايران، مشد، 2011.
* نهج البلاغة و المعجم المفهرس لالفاظه، دار التعارف للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، ط 1، 1990.
* مختار الصحاح:لزين الدين ابو عبد الله محمد بن أبي بكر الرازي (ت 666 ه) تحقيق: يوسف الشيخ محمد، ط 5، المكتبة العصرية، بيروت، صيدا، 1999
* المعجم الوسيط: مجمع اللغة العربية (ابراهيم مصطفى، احمد الزيات، حامد عبد القادر، محمد النجار، دار الدعوة، القاهرة، د. ت.
* معجم مقاييس اللغة: لابي الحسين احمد بن فارس (ت 395 ه)، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، د. ت.
* المفردات في غريب اعراب القرآن: لأبي القاسم الحسين بن محمد الراغب الإصفهاني، تحقيق: مركز الدراسات و البحوث في مكتبة نزار مصطفى الباز، د. ت.
* النهاية في غريب الحديث و الأثر: لمجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري إبن الأثير (ت 606 هـ)، تحقيق: طاهر احمد الزاوي و محمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية، بيروت، 1979

نشرت في الولاية العدد 136

مقالات ذات صله