أ.م.د حسين عبد العال اللهيبي
أبو الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب. أمّه أم ولد سندية يقال لها (جيداء) أهداها المختار بن أبي عبيد الثقفي إلى الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) فأنجبت له زيداً وعمر وعلياً وخديجة.
نشأته
ولد في المدينة المنورة سنة ثمان وسبعين، وبها نشأ، وقد تولّى رعايته بعد وفاة والده الإمام علي بن الحسين عليهما السلام، أخوه الإمام محمد الباقر عليه السلام، وعانى مع أخيه الإمام الباقر ظلم بني أمية وقسوتهم، وشاهد جميع المحن والرزايا التي توالت على أهل البيت عليهم السلام، وتحمّل جفاء الطاغية هشام بن عبد الملك، وقد اختار الموت مع العزّ على الحياة مع الذل حتى فاز بلقاء الله ونال رضوانه صابراً محتسباً شهيدا، بعد أن ضرب أروع أمثلة الفداء والتضحية والإباء.
علمه وفضله
كان زيد عالماً واسع الثقافة عميق المعرفة، حسن الجدال، قوي الحجة، يناظر العلماء ويفوقهم علماً وقدرة على الإقناع، قال خالد بن صفوان: انتهت الفصاحة والخطابة والزهادة والعبادة من بني هاشم إلى زيد بن علي، لقد شهدته عند هشام بن عبد الملك وهو يخاطبه وقد تضايق به مجلسه قال له هشام بن عبد الملك: إن الله لا يجمع النبوة والملك لأحد، فقال له زيد: ما هذا؟ قال الله تبارك وتعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهُم الله من فَضْلِهِ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة، وآتيناهم ملكاً عظيما) [النساء:54]، فأفحم هشام ولم يحر جواباً .
خطابه وقوة حضوره
وهو بعد يعدّ في الذروة من فصحاء المتكلمين، وكان جريئاً في قول الحق لا يتهيّب من أحد، ولا يخاف في الله لومة لائم، وكان من خبره مع هشام بن عبد الملك أن هشاما دخل عليه زيد بن علي وقد أذن للناس إذناً عاماً فحجب زيداً، ثمّ أذن له في آخر الناس، فدخل فلم يجد له موضعاً يقعد فيه، فعلم أن ذلك فعل به على عمد، فأقبل على هشام وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فلم يرد عليه، فقال: السلام عليك يا أحول !، إذ لم تر نفسك أهلاً لهذا الاسم، فقال له هشام: أنت الطامع في الخلافة وأمّك أمة؟، فقال: إنّ لكلامك جواباً، قال: وما جوابك؟، قال: لو كان في أمّ الولد تقصير لما بعث الله إسماعيل نبياً وأمّه هاجر !، فالخلافة أعظم أم النبوة ؟، فأفحم هشام، فلما خرج قال لجلسائه: أنتم القائلون إنّ رجالات هاشم هلكت، والله ما هلك قوم هذا منهم، فردّه وقال: ارفع إليّ حوائجك، فقال: أمّا وأنت الناظر في أمور المسلمين فلا حاجة لي، ثمّ قام فخرج، فأتبعه رسولاً، وقال: اسمع ما يقول، فتبعه فسمعه يقول: من أحبّ الحياة ذلّ.
ولا ننسى أنه أحد الخطباء المعروفين، وقد وصفه الجاحظ بأنه خطيبٌ لا يجارى، وفضّله في ذلك على خلاّد بن يزيد الأرقط بحسن المخرج، وسلامة لفظه من الصفير ؛ لسلامة أسنانه.
وفي حقّه قال الإمام الصادق – عليه السلام – ((رحم الله عمّي زيداً كان والله سيّداً، لا والله ما ترك فينا لدنياً ولا آخرة مثله))، وقال في موضع آخر ((إنه كان مؤمناً، وكان عازماً، وكان عالماً، وكان صدوقاً، أما إنه لو ظفر لوفى، أما إنه لو ملك لعرف كيف يضعها)). هذه هي الصورة التي يرسمها الإمام الصادق عليه السلام لعمه زيد الشهيد، وهي صورة الناسك العابد الزاهد.
صفات شخصه المؤمن المتفردة
لقد نالت شخصية زيد بن علي إعجاب مترجميه، فأثنوا عليه ثناءً منقطع النظير، وفيه يقول ابن طرار النهرواني: (ولقد كان رضوان الله عليه من أعلام الأبرار، والأئمة الأخيار، سلك سبيل سلفه، واقتفى آثارهم فارتفع واعتلى، وأم أنوارهم فاستبصر واهتدى، ورفع قواعد بنيانهم، وشيّد وثيق أركانهم، واتبع سبيلهم في نصرة حزب الإسلام وأوليائه، ومحاربة حرب الدين وأعدائه، وغضب لله جلّ جلاله من طغيان المترفين، وعدوان المسرفين، فجاهد في سبيل ربّه، وإخوانه في الملّة والدين، وأبدى صفحته، وبذل في ذات الله ماله وصحبته، فقضى الله تعالى له بالتوفيق والسعادة، وختم له بالفوز والشهادة، ونقله إلى دار كرامته، وجعل أعداءه بغرض الانقلاب إلى دار عذابه ونقمته)، ونعته المظفري فقال: (وكان زيد من أهل العلم، والورع بمحل عال وعظيم)، وذكره ابن الطقطقا فقال: (كان زيد من عظماء أهل البيت عليهم السلام علماً وزهداً وورعاً وشجاعة وديناً وكرماً)، ووصفه الذهبي بأنه: (كان ذا علمٍ وجلالة وصلاح).
هذا إلى غير ذلك من النصوص التي أشادت بدماثة أخلاقه، وحسن سيرته، وكثرة فضائله، ومن خلال هذه النصوص نستطيع أن نستقري ملامح شخصيته، فقد كان عليه السلام سمح النفس، حلو المعشر، وقوراً، كثير التعفف والتعطف، بارّاً بخواصه، واصلاً أهل بيته، مؤثراً لهم على نفسه.
انقطاعه لله ودعاؤه
وكان عليه السلام كثير التبتل والانقطاع إلى الله، وكان كثيراً ما يدعو الله أحرّ دعاء، ومن دعائه: (اللهم إني أسألك سلوّاً عن الدنيا، وبغضاً لها ولأهلها، فإن خيرها زهيد، وشرّها عتيد، وجمعها ينفد، وصفوها يرنق، وجديدها يخلق، وخيرها ينكد، وما فات منها حسرة، وما أصيب منها فتنة، إلاّ من نالته منك عصمة، أسألك اللهم العصمة منها، ولا تجعلنا كمن رضي بها، واطمأن إليها، فإن من أمنها قد خانته، ومن اطمأن إليها قد فجعته، فلم يقم في الذي كان فيه منها، ولم يظعن به عنها، أحصى للعذاب ومنزلته، وموت بالعذاب وشدّته، فلا الرضا له بقي، ولا السخط منه نسي، انقطعت لذّة الإسخاط عنه، وبقيت شقوة الانتقام منه، فلا خلد في لذة، ولا سعد في حياة، ولا نعشة بموت، ولا نفسه أحببت بشره، أعوذ بك اللهم من مثل عمله، ومثل مصيره).
ثورة الوجدان وعزيمة الإيمان
كان زيد بن علي سريع التأثُّرِ، يتحسَّسُ بوجدانِهِ وخاطرِهِ همومَ الأمة ومعاناتها، وقد اهاج فيه ذلك شعوراً لاذعاً ممضاً بالحسرة لما يراه من فعل طغام بني أمية الذين استباحوا الحرمات، وانتهكوا الأعراض، وسفكوا الدماء، وبدلوا شرع الله، وعاثوا في الدين، وهذا أحد أسباب ثورته، على أن المتأمل لسيرته لا يراه متجهاً للسياسة أو راغباً في السلطة، أو الوصول إلى منصب معين، فقد عرفناه زاهداً معرضاً عن الدنيا، غير راغب فيها، وإنما كانت ثورته بدافع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فضلاً عن شدّة مضايقتهم له، إذ أخذوا يلاحقونه ويضيقون عليه الخناق حتّى لم يجد وسيلة ولا ملاذاً غير مناجزتهم الحرب، وإعلان الثورة، ولا أدلّ على ما قلناه من قول محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب وقد سئل عن سبب خروج زيد بن علي: إنّ أبا الحسين لما رأى الأرض قد أطرقت جوراً ورأى قلّة الأعوان، وتخاذل الناس، كانت الشهادة أحبّ الميتات إليه .
وكان استشهاده يوم الاثنين لليلتين خلتا من صفر سنة 122هـ، وعمره يومئذ أربع وأربعون سنة، من أثر سهم أصابه في جبهته.
نشرت في الولاية العدد 86