مفاهيم قرآنية التزكية

Plant-in-hand

الشيخ كاظم الصالحي

في هذه الحلقة نتعرف على مفهوم (التزكية) في اللغة والاصطلاح ثم نشير الى الرؤية القرآنية للتزكية من خلال ملاحظة الآيات التي تبين أهميتها والعوامل التي تعين الإنسان على تحصيلها إلى جانب الموانع منها وبعض ثمارها الطيبة التي تعود على من يزكي نفسه.

المراد من مفردة (التزكية):
ان لفظ التزكية مأخوذ من مادة (ز ك و) والزكاة في اللغة العربية تنمي النمو الحاصل عن بركة الله ويقال زكا الزرع يزكو اذا حصل منه نمو، وبركة النفس تعني تنميها بالخيرات والبركات وتهذيبها من العيوب والنقائص وتعني ايضا تجرد الشيء من العيوب والشهادة بطهارتها والتزكية في علم الأخلاق تعني تطهير النفس من النقائص والرذائل وتحيلها بالخصال الحميدة والكمال.
أهمية التزكية:
لقد أعطى ديننا والآيات القرآنية اهتماما بالغاً بتزكية الإنسان نفسه وتطهيرها من أوساخ وقذارات الكفر والمعصية والأخلاق الذميمة ويمكن ملاحظة هذا الاهتمام من خلال عدة حقائق أهمها:
* التزكية من الأهداف الأساسية للأنبياء سيما نبينا الكريم محمد صلى الله عليه واله، فقال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)-الجمعة/2-.
* اعتبر القرآن الكريم التزكية أساسا لفلاح الإنسان وهو الهدف الأسمى في الحياة الآخرة قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى)-الأعلى/14-.
* تقديم التزكية على التعليم في ثلاثة آيات من أربعة فالتعليم وان كان مقدما على التزكية من الناحية الموجودة إلا لأنه تأخر عنها رتبة وأهمية لأنه مقدمة لعملية التزكية.
* تكرار القسم على المقسم عليه وهو تزكية النفس قال تعالى: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)-الشمس/1 ـ 10-.

عوامل أسباب التزكية:
بملاحظة الآيات القرآنية يمكن أن نشير الى ثلاثة عوامل أساسية لتزكية النفس الإنسانية هي:
أولا: الله سبحانه وتعالى: فإنه عز وجل مصدر كل خير ولا يمكن للإنسان ان يحقق شيئا في حياته حتى تتعلق إرادة الله بذلك الشيء ومناه تزكية نفسه ولذلك فهو بحاجة دائمة الى الرعاية والتوفيق الإلهي والله تعالى هو الذي يزكي الأنفس بفضله ورحمته حيث قال تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)-النور/21-، وعليه فإن الله تعالى هو الذي له حق الشهادة على تزكية اي شخص فإنه وحده العالم بباطن الإنسان ونواياه وأسراره وقد رد على أهل الكتاب الذين يعتبرون أنفسهم أطهر وأفضل من غيرهم بقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً)-النساء/49-.
ثانيا: الأنبياء والأئمة وأولياء الله: وهم الذين ولدوا على الفطرة منزهين عن الشرك والعصية والرذائل بهبة إلهية وليس بنحو اكتسابي قال تعالى قبل ميلاد النبي عيسى عليه السلام: (قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا)-مريم/19- إنهم الواسطة في إيصال الفيض الإلهي وتربية الناس وتزكيتهم من خلال تلاوة القرآن الكريم وبيان الأحكام الإلهية والأخلاق الفاضلة وتطهيرهم من قذارات الشرك والمعصية والأخلاق الذميمة وهذا ما طلبه النبي ابراهيم عليه السلام من الله تعالى حيث قال: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ)-البقرة/129- فاستجاب اليه دعاءه وبعث نبينا الأكرم صلى الله عليه واله وهي أعظم نعمة من بها الله تعالى على البشرية.
ثالثا: الالتزام بالإيمان والعمل الصالح: إن العاملين السابقين لا يكفيان في تزكية النفس حتى ينضم اليهما أعمال الإنسان مع إيمانه عن وعي وإرادة بدعوة الأنبياء والالتزام بالقوانين والشرائع الإلهية قال تعالى: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى)-طه/76-، مما يعني أن التزكية لا تحصل بدون الإيمان والعمل الصالح. اي ان هناك ترابط وثيق بين العمل والتزكية ويمكن القول ان الغاية الأكبر من تشريع العبادات هو تنقية الناس عن القاذورات وتكاملهم المعنوي.

عوامل وقاية الإنسان:
وقد اشار القرآن الى بعض العبادات ووصفها كعامل لوقاية الإنسان من التلوث بتلك القذارات، كالصلاة التي تقي الإنسان من التلوث بالمعاصي وتطهره منها بعد ارتكابها قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ)-العنكبوت/45- وقال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)-هود/114- والرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام تؤيد ذلك حيث قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه واله ننتظر الصلاة فقام رجل فقال يا رسول الله أني اصبت ذنبا فاعرض عنه، فلما قضى النبي صلى الله عليه واله الصلاة قام الرجل فأعاد القول فقال النبي صلى الله عليه واله: أليس قد صليت معنا هذه الصلاة، أحسنت لها الطهور؟ قال بلى، قال انها كفارة ذنبك).
وروى ابو حمزة الثمالي عن أحد الصادقين عن أمير المؤمنين عليه السلام: سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان أرجى آية في كتاب الله هو قوله (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) ثم قال: إنما منزلة الصلوات الخمس لأمتي كنهر جار على باب احدكم فما يظن أحدكم لو كان في جسده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس طرق كان يبقى في جسده درن؟ فكذلك والله الصلوات الخمس لأمتي.
والوقاية الأخرى هي الإنفاق في سبيل الله التي أكد عليها القرآن الكريم ورغب كثيرا في ممارستها وقد عبر عنه في بعض الآيات بـ(الصدقة) كقوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم-التوبة/103-، وقد اعتبر القرآن الانفاق من صفات المتقين بقوله عز وجل: (فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى)-الليل/14 ـ 18-

ثمار التزكية:
للتزكية فوائد وثمار يعود على المزكي نفسه حيث قال تعالى: (وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ)-فاطر/18- ومن هذه الثمار والفوائد: (1. الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا)-الشمس/9-. (2. النجاة من عذاب النار قال تعالى: (فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى .. حتى يقول وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى).(3. تحصيل درجات عالية في الجنة قال تعالى: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِيـــــــنَ فِيهَــــا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّــــــى)-طه/75 ـ 76-.

موانع التزكية:
يشير القرآن الكريم الى موانع التزكية في مواضع عديدة، من هذه الموانع الشيطان الرجيم الذي يعد العدو الأول والأكبر للإنسان وقد اقسم على اضلاله وافساد ايمانه وعمله وجره الى النار معه بمختلف الأساليب والوسائل ومنها ترغيبه وتزيينه للمعاصي لكي يتلوث بها الإنسان ويحرم من التزكية. كذلك المعاصي والسيئات فان ارتكاب بعض المعاصي يحول دون تطهير القلوب. والمراد من عدم تزكيتهم ان الله لا يطهرهم من خلال مغفرة ذنوبهم. فروي عن النبي صلى الله عليه واله: (ثلاثة لا ينظر الله اليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المُرخي ذيله من العظمة (اي المستكبر)، والمزكي سلعته بالكذب، ورجل استقبلك بودَ صدره فيوري وقلبه ممتلئ غشاً).

نشرت في الولاية العدد 88

مقالات ذات صله