الدكتور جودت القزويني
بعد أن أخذ الكبت، والاضطهاد طريقه للانحسار عن الشيعة انبرى أئمتهم، وفقهاؤهم بالدعوة الى المذهب، والتغلغل في دفع الفكرة الشيعية الى المناطق التي كانت موصدة أمامهم من قبل كإيران، وأكثر جهات العراق، وسوريا وأنْ يبرزوا التشيع بشكل حملة فكرية منظمة الى جانب مقاومتهم للحملات الفكرية التي نادى القرامطة والغلاة بها.
وحفلتْ هذه الفترة بظهور مذاهب ونحل، وبانقسام كبير في الآراء والنزاعات في مجادلات ومناظرات عنيفة وحادة بصراحة وحرية حفظتها جملة من المؤلفات، من ذلك الصراعات الكلامية حول صفات الخالق وأفعال الإنسان في الجبر والاختيار وحول الامامة والخلافة وما يتصل بها من مسائل العصمة والنص الى مواضع كلامية أخرى كانت جميعاً محور المناظرات آنذاك.
في هذه الأجواء تألفت أسماء كثيرة من ارباب الملل، ومن قبيل شيخ الأشاعرة أبو بكر محمد بن الطيّب البصري المعروف بالقاضي الباقلاني(ت:403هـ/1013م)،والقاضي عبد الجبار ابن أحمد الهمذاني شيخ المعتزلة (ت:415هـ/1024)، وأبو الحسن البصري محمد بن علي بن الطيّب (ت:430هـ/1039م).
كما تألق نجم شيخ مشايخ الشيعة أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الملقب بالشيخ المفيد (ت413هـ/1022م)، الذي يمكن ان تكون مدرسته الفكرية بداية لتطور المدرسة الاجتهادية الاثني عشرية.
ويُعدُّ الشيخ المفيد من العلماء الكبار الذين استطاعوا أنْ يتركوا من الآثار الفكرية والاجتماعية ما نهض بالحركة الشيعية, وبلّورَ مناهجها العلمية.
انتهتْ رئاسة مذهب الإمامية الى الشيخ المفيد وكان ذا مكانة اجتماعية مهمة، نشيطاً في توجيه العلماء، معتنياً بتربية الكوادر المؤهلة للزعامة، حتى تخرج على يده مجموعة من الفقهاء تولّوا رئاسة المذهب من بعده.
فمن تلامذته علم الهدى الشريف المرتضى، وأخوه الشريف الرضي (ت:406هـ/1015م), والشيخ أبو الفتح الكراجكي(ت:449هـ/1057م) والشيخ الطوسي (ت:460هـ/1068م)، وأبو العباس النجاشي, وسالار ابن عبد العزيز الديلمي (ت: 448هـ/1056م)، وجعفر بن محمد الدوريستي وأحمد بن علي المعروف بابن الكوفي, وأبي يعلي محمد بن الحسن ابن حمزة الجعفري، وغير هؤلاء.
وكانت للمفيد المرجعية في الفُتيا والأحكام في كثير من البلدان يرجع الناس إليه في الفصل، وأخذ الأحكام كجرجان، وخوارزم، وشيراز، ومازندران ونيشابور، والمُوصل، وطبرستان، وعُكبُرا، والرَّقة، وحرَّان، الى غيرها من المدن والبلدان التي كان أهلها يفزعون إليه لحلّ الخصومات, ويرجعون الى رأيه في الأحكام.
وقد استطاع بفضل ما أُوتي من مواهب أنْ ينهض بالفكر الشيعي ويُحدث نقلةً متميزّة في المجال الفكري والاجتماعي على حدّ سواء. وكان كما يقول المؤرخون عنه: له مجلس نظر بداره يحضره العلماء كافة.
ويبدو ان علاقة السلطان بالمفيد كانت حسنة تبعا للجو السياسي الذي عاشته البلاد فقد ذكر ابن كثير عنه ان (ملوك الاطراف كانت تعتقد به لكثرة الميل الى الشيعة في ذلك الزمان) ويبدو ايضا ان الموهبة العلمية التي تميز بها المفيد وسعة اطلاعه من جهة واحترام الامراء له من جهة ثانية مكَناهُ من استحداث وضع فكري واجتماعي متميز في ذلك الوسط الذي بدأ الامتداد الشيعي يدب في اوصاله.
نشرت في الولاية العدد 93