ركز الإمام امير المؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة على موضوع الزهد في الدنيا، لتقليل تعلّق الناس بها كخطوة ضرورية للإصلاح في مجال إتباع الهوى وطول الأمل، لذلك نجد أن كثير من الخطب التي يحث فيها الإمام(عليه السلام) على إصلاح النفس تعرّج على موضوع التزهيد في الدنيا وذكر صفاتها المذمومة ومزالقها الخطيرة.
وقضية الزهد بالدنيا من المميزات الرائعة التي تميّز بها كتاب نهج البلاغة، وكيف لا يكون ذلك وصاحب النهج قد سدّ الأبواب على العالمين في ضرب أروع أمثلة الزهد على الصعيد العملي.
ويخطئ من يظن أن الصورة التي قدمها الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) للزهد في كتاب النهج صورة ذات أبعاد تقترب من الصوفية أو الرهبانية التي تنهى عنها الشريعة الإسلامية، وبالتالي ترى بعضهم يحاول أن يؤوّل الأمر بأن الزهد الذي دعا إليه الإمام(عليه السلام) هو مما اختص به أهل عصره، باعتبار الفورة المادية التي انتشرت في أوساط المسلمين انذاك نتيجة للانفتاح الاقتصادي والتميز الطبقي الذي أصابهم.
نعم، من الصحيح أن يكون الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) قد عاصر تلك الأوضاع المؤسفة التي عاشها المسلمون في ذلك الوقت، ولكن لغة الخطاب العام الذي قاله(عليه السلام) في مجال التزهيد بالدنيا ذات نطاق واسع لا يختص بجماعة دون جماعة، أو بأهل زمان دون آخر.
ان نظرة فاحصة لمجمل الأحاديث التي تخص الزهد في نهج البلاغة تعرفنا بأن التصوف والرهبنة من الأمور المرفوضة بشكل قاطع، وقد ورد هذا الأمر بشكل جلي في قول الإمام(عليه السلام) لعاصم بن زياد الذي مثّل بسلوكه حالة التصوف والانعزال: (يَا عُدَيَّ نَفْسِهِ لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ أَ مَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَوَلَدَكَ؟ أَتَرَى اللَّهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا، أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ) فقال عاصم: يا أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك! فقال(عليه السلام): (وَيْحَكَ إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ)(نهج البلاغة 2: 188.)، كما ورد قوله(عليه السلام) في موضع آخر: (لِلْمُؤْمِنِ ثَلَاثُ سَاعَاتٍ فَسَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ وَ سَاعَةٌ يَرُمُّ مَعَاشَهُ وَ سَاعَةٌ يُخَلِّي بَيْنَ نَفْسِهِ وَ بَيْنَ لَذَّتِهَا فِيمَا يَحِلُّ وَ يَجْمُلُ وَ لَيْسَ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ شَاخِصاً إِلَّا فِي ثَلَاثٍ مَرَمَّةٍ لِمَعَاشٍ أَوْ خُطْوَةٍ فِي مَعَادٍ أَوْ لَذَّةٍ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ)(نهج البلاغة 4: 93)، وبالجمع بين الأقوال في هذا الموضوع نفهم حقيقة الزهد الذي دعا إليه الإمام(عليه السلام) وحث الناس على التخلق به، فهو الزهد الذي لا يحرّم الطيبات الضرورية أو العقلائية التي تلائم كل فرد في المجتمع.
ومما يدل على أن الزهد الذي حث عليه الامام هو من الزهد الممدوح: أنّه(عليه السلام) جعله من الصفات العالية في تهذيب النفس ومن صفات المتقين الحميدة، قال(عليه السلام): (فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ وَ أَنْصَبَ الْخَوْفُ بَدَنَهُ وَأَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ وَ أَظْمَأَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ يَوْمِهِ وَظَلَفَ الزُّهْدُ شَهَوَاتِهِ وَأَوْجَفَ الذِّكْرُ بِلِسَانِهِ وَقَدَّمَ الْخَوْفَ لِأَمَانِهِ وَتَنَكَّبَ الْمَخَالِجَ عَنْ وَضَحِ السَّبِيلِ وَسَلَكَ أَقْصَدَ الْمَسَالِكِ إِلَى النَّهْجِ الْمَطْلُوبِ، وَلَمْ تَفْتِلْهُ فَاتِلَاتُ الْغُرُورِ وَلَمْ تَعْمَ عَلَيْهِ مُشْتَبِهَاتُ الْأُمُورِ ظَافِراً بِفَرْحَةِ الْبُشْرَى وَرَاحَةِ النُّعْمَى فِي أَنْعَمِ نَوْمِهِ وَآمَنِ يَوْمِهِ…)(نهج البلاغة 1: 141.).
وخلاصة لما تقدم، نستوحي من مجمل العرض الرائع للزهد في نهج البلاغة أن أمير المؤمنين(عليه السلام) يريد من المرء أن لا يكون مرتبطا بالدنيا بحيث تكون شغله الشاغل، واحد الطرق التي تحقق هذا الغرض هو نبذ فضول الدنيا عمليا والاقتصار على ما هو ضروري كأداة لانتزاع التعلق القلبي بها – بالإضافة إلى تحقيق الفائدة الروحية في التقليل من الملذات المادية وتقوية الإرادة- وربما كان المدح الواسع للقناعة وذم الطمع في أقوال الإمام هو لأجل هذا الغرض بالذات، قال(عليه السلام): (يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَتَاعُ الدُّنْيَا حُطَامٌ مُوبِئٌ فَتَجَنَّبُوا مَرْعَاهُ، قُلْعَتُهَا أَحْظَى مِنْ طُمَأْنِينَتِهَا وَبُلْغَتُهَا أَزْكَى مِنْ ثَرْوَتِهَا، حُكِمَ عَلَى مُكْثِرٍ مِنْهَا بِالْفَاقَةِ، وَأُعِينَ مَنْ غَنِيَ عَنْهَا بِالرَّاحَةِ، مَنْ رَاقَهُ زِبْرِجُهَا أَعْقَبَتْ نَاظِرَيْهِ كَمَهاً، وَمَنِ اسْتَشْعَرَ الشَّغَفَ بِهَا مَلَأَتْ ضَمِيرَهُ أَشْجَاناً، لَهُنَّ رَقْصٌ عَلَى سُوَيْدَاءِ قَلْبِهِ، هَمٌّ يَشْغَلُهُ وَ غَمٌّ يَحْزُنُهُ، كَذَلِكَ حَتَّى يُؤْخَذَ بِكَظَمِهِ فَيُلْقَى بِالْفَضَاءِ مُنْقَطِعاً أَبْهَرَاهُ هَيِّناً عَلَى اللَّهِ فَنَاؤُهُ وَعَلَى الْإِخْوَانِ إِلْقَاؤُهُ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ الْمُؤْمِنُ إِلَى الدُّنْيَا بِعَيْنِ الِاعْتِبَارِ وَيَقْتَاتُ مِنْهَا بِبَطْنِ الِاضْطِرَارِ وَيَسْمَعُ فِيهَا بِأُذُنِ الْمَقْتِ وَالْإِبْغَاضِ، إِنْ قِيلَ أَثْرَى قِيلَ أَكْدَى، وَإِنْ فُرِحَ لَهُ بِالْبَقَاءِ حُزِنَ لَهُ بِالْفَنَاءِ، هَذَا وَلَمْ يَأْتِهِمْ يَوْمٌ فِيهِ يُبْلِسُونَ)(نهج البلاغة 4: 85)، وقال(عليه السلام): (…وَلَا كَنْزَ أَغْنَى مِنَ الْقَنَاعَةِ وَلَا مَالَ أَذْهَبُ لِلْفَاقَةِ مِنَ الرِّضَى بِالْقُوتِ وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى بُلْغَةِ الْكَفَافِ فَقَدِ انْتَظَمَ الرَّاحَةَ وَتَبَوَّأَ خَفْضَ الدَّعَةِ وَالرَّغْبَةُ مِفْتَاحُ النَّصَبِ وَمَطِيَّةُ التَّعَبِ وَالْحِرْصُ وَالْكِبْرُ وَالْحَسَدُ دَوَاعٍ إِلَى التَّقَحُّمِ فِي الذُّنُوبِ وَالشَّرُّ جَامِعُ مَسَاوِئِ الْعُيُوبِ)( نهج البلاغة 41: 87).
بالإضافة إلى ذلك نجد انه(عليه السلام) يدعو إلى استثمار فضول هذه الدنيا كطريق إلى الآخرة إن لم يكن تركها، قال(عليه السلام) للعلاء بن زياد الحارثي وقد رأى سعة داره: (مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هَذِهِ الدَّارِ فِي الدُّنْيَا وَأَنْتَ إِلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ وَبَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ وَتَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ وَتُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا فَإِذاً أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ)(نهج البلاغة 2: 187).
نشرت في الولاية العدد 101