أثر العفو والتسامح في استقرار الصحة النفسية

أ.د. نـجم عبدالله الموسوي

الصحة النفسية (Psychological health) عنصر مهم في حياة الفرد والمجتمع حالها كحال الصحة الجسدية، وتُعدُّ ركنا أساسيا في بناء شخصية الإنسان بناءً متزناً، بعيداً عن التعقيد والمشاكل والاضطرابات .
لقد سعى الدين الإسلامي سعيه الحثيث من خلال تعليماته ووصاياه وتوجيهاته العبادية الى خلق حالة الاستقرار النفسي للفرد ووضع منهاجاً رصيناً لإبعاد الفرد قدر الإمكان عن الاضطرابات النفسية التي تحدث وتسبّب خللاً في شخصيته السوية حرصاً من المشرع جلت قدرته على بناء الشخصية الإسلامية بناءً ناجحاً متكاملاً يقيه من الوباء النفسي والأخلاقي والروحي.
بما أنّ الصحة النفسية لها الأثر المهم في تكوين شخصية الفرد، ولكونها أكثر خطورة من الصحة الجسدية عمل الإسلام الحنيف على وضع منهجاً وأسساً تربوية تضمن حياة الفرد وتحصّنه تجاه العقد النفسية عن طريق وجود تعليمات سماوية ذات بعدٍ فعّالٍ في عملية تربية الفرد والمجتمع.
يؤكد العديد من علماء النفس والتربية في بحوثهم التجريبية والوصفية، أنّ هناك علاقة وثيقة بين الالتزام الأخلاقي وبين الصحة النفسية وأنّهما يتناسبان تناسباً طردياً فكلما زادت نسبة النمو الأخلاقي لدى الفرد إستقرّت صحته النفسية أكثر، ومن المؤكد أن الصحة النفسية ستلقي بظلالها وقطوفها على الصحة البيولوجية (الجسدية) لأنّ هناك ترابطاً كبيراً بين النفس والجسد .
كما أنّ الابتعاد عن القيم والنظم الأخلاقية والتربوية الصحيحة والمنهج المستقيم سيؤدي حتماً إلى دخول الفرد في خضم انعدام الصحة النفسية ونشوء الأمراض النفسية البايلوجية والاجتماعية بعيدة الأمد وقد يحتاج الى سنوات طويلة لعلاجها والتخلّص منها.
يرى (الحسيني، 1999) أن الأمراض النفسية وليدة الإنحراف عن منهج الفطرة، وتتجذر هذه الأمراض في المجتمعات التي انحرفت عن المنهج الإسلامي انحرافاً كاملاً في داخل الأسرة وخارجها وفي جميع مجالات الحياة (الحسيني، 1999 ص 147) .
بناءً على ذلك منحنا الله سبحانه وتعالى منهجاً إلهياً ودستوراً أخلاقياً كفيلاً بأن يحصّن الفرد المسلم من كلّ ما يعكّر صفو حياته النفسية الآمنة ويجعله يعيش مستقرا مطمئناً، ومن بين مرتكزات هذا المنهج والدستور صفة العفو والتسامح التي حث الله سبحانه وتعالى عليها في العديد من الآيات المباركات في القرآن الكريم وحث عليها الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه واله) والأئمة الهداة (عليهم السلام) .
قال تعالى: ((فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))(البقرة: 109)، وقال تعالى: ((خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)) (الأعراف: 199))، وهناك العديد من الآيات المباركات التي تتناول هذا المضمون .
كما جاء التأكيد على العفو والتسامح في أقوال الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين ومنها: قال الرسول محمد (ص): ((أَ لَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ خَلَائِقِ الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ ، الْعَفْوُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ ، وَ تَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ ، وَ الْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ ، وَ إِعْطَاءُ مَنْ حَرَمَكَ.)) (الكافي 2: 87 | 1). وروي عن رسول الله (صلى الله عليه و آله) أنهُ قَالَ : عليكم بالعفو، فإنّ العفو لا يزيد العبد إلّا عزاً، فتعافوا يعزكم الله))( الكافي: ٢ / ١٠٨ / ٥). ورُوِيَ عَنْ الإمام عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السَّلام) أنهُ قَالَ) : (كن جميل العفو إذا قدرت، عاملا بالعدل إذا ملكت (((الريشهري، ج 3، ص 2014)، والأحاديث كثيرة لا مجال لذكرها هنا.
لقد أكد علم النفس الإيجابي (Positive Psychology ) وهو أحد فروع علم النفس الحديثة الظهور والتي برزت في العقد الأخير من القرن الماضي على يد العالم (مارتن سيلغمان) إنّه من الضروري أن تركز الدراسات النفسية على مكامن القوة والفضائل والأخلاق الإنسانية وبث روح الأمل والتفاؤل والإيثار، لأنّ تنمية مكامن القوة في نفسية وشخصية الإنسان يعمل على خلق حالة وقائية تجاه عدم التوافق النفسي فضلاً عن معالجة الاضطرابات النفسية الشائعة وبالتالي جعل الإنسان في حالة دائمية من السمو والرفعة والأخلاق الفاضلة.
كما أنّ ضبط المنظومة الأخلاقية لدى الفرد لهما دور في نمو واستقرار وطمأنينة وارتياح الفرد نفسياً ومن ثم بدنياً، إذ أنّ العفو عن الآخرين ومسامحتهم ينعكس بشكل إيجابي على الصحة العامة الإنسان، فالحقد وحب الانتقام والغضب والكره يقود إلى تعب القلب وارتفاع ضغط الدم وسهولة الإصابة بالالتهابات المختلفة والأمراض المزمنة، وحدوث التجاعيد والشيخوخة المبكرة .
ولقد أكدت العديد من الدراسات إنّ العفو من الناحية النفسية يتضمن مجموعة من المشاعر والسلوكيات التي تدفع الفرد للتسامح والصفح من خلال ترويض النفس على تجاوز الآثار السلبية ومشاعر الغضب والكدر والعداء الذي ينوي الفرد المساء إليه توجيهه الى المسيء، كما أنّ العفو يرتبط إيجابياً مع الصحة العقلية والعاطفة الإيجابية والرضا عن الحياة وسلبياً مع الكآبة والعصاب والقلق وإن العفو يرتبط إيجابياً بصحة الفرد النفسية حيث ينقله من حالة الاحتقان النفسي والرغبة الشديدة في الانتقام وأخذ الثار الى حالات من الهناء والرضا والاستقرار والشعور بالسعادة، وأن العفو من الناحية البايلوجية ينقل الفرد من ضعف مقاومة الجسم إلى وقوف الجسم صامداً بوجه العديد من الأمراض وبشكل خاص أمراض القلب، وذلك لأنّ القلب هو أكثر أجهزة الجسم تضرراً من الانفعالات السلبية ويقي العفو والتسامح الفرد من ارتفاع أو انخفاض معدل ضربات القلب ومشاكل ضغط الدم وتصلب الشرايين والمحافظة على كفاءة الأوعية الدموية.
كما أنه من الناحية الاجتماعية يجعل الفرد محتفظاً بعلاقاته الإيجابية مع الآخرين، وتنمي حالة الصبر والتجاوز عن الخطأ وعن المسيء مع القدرة على رد الإساءة أو لا، وتزيد في المجتمع النزعة لعمل الخير والحث عليه وخلق حالة التوافق والانسجام والتعايش السلمي بين أفراد المجتمع كافة وتزيد نسبة العاطفة والشفقة والرحمة والمودة وحب المساعدة وتخفيف ضغوط الحياة .
وعلى اية حال فإنّ ميل الفرد والمجتمع إلى حالة العفو والتسامح إستجابة لنداء السماء أو لتوجيهات الرسول محمد (صلى الله عليه واله) والأئمة الهداة (عليهم السلام) رغبة من الفرد في طاعة الله تعالى وأولي الأمر ورغبة في الحصول على ثواب وأجر المحسنين والمتسامحين والعافين يعطي نتيجة إيجابية في حياة الفرد والمجتمع وعلى مختلف الأصعدة وينمي جانب الاستقرار النفسي لدى الفرد.

المصادر:
– الحسيني :شهاب الدين: مقومات التربية،ط1، دار النبلاء، بيروت 1999م.
– الريشهري، محمد: ميزان الحكمة، دار الحديث للطباعة والنشر، ط6، قم المقدسة 1391ش.
– الكليني، للشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني: الكافي، تحقيق علي أكبر غفاري، ط3، دار الكتب الإسلامية، قم المقدسة 1388 هـ.

نشرت في الولاية العدد 116

مقالات ذات صله