الفضاء الافتراضي الأسطوري للفوضى الخلاقة


د. أحمد عبيد كاظم .. جامعة الكوفة / كلية التربية
يتمتع حضور الفن الرقمي بمكانة مهمة بوصفه الثقافة المعاصرة المهيمنة على الخطاب الجمالي، ولعل أساس المشروع الثقافي لما بعد الحداثة مبدأ الفوضى وجماليات التضاد والرفض وكسر المتوقع والمألوف إلى عالم افتراضي رقمي متعالي على هموم المتلقي وواقعه. فالثورة الرقمية أصبحت تلامس حواسنا وأفكارنا بشكل يومي و مباشر، ونحن نجد في الأساطير القديمة (أسطورة الخلق البابلية) والحديثة في مجالات متعددة في الآداب والفنون ومنها التصميم الكرافيكي لمؤسسة الإنتاج السينمائي في هوليود مثل (سلسلة أفلام حرب النجوم) حيث تمثل التقنية الرقمية والجانب التجريبي أهم أدوات ثقافة العصر وتحولاته الجذرية.
إذ نجد في هذه الملصقات السينمائية و الفضاء المحيط بالأشخاص وملابسهم وأدواتهم القتالية الليزرية والحيوانات الأسطورية ومركبات سريعة الحركة ضمن (أوبرا فضاء ملحمية) تجمع العلم والدين والعلم والسياسة ضمن خطاب جمالي متعدد المستويات وحسب الحاجة المادية والمثالية والرؤى النقدية بتعدد الثقافات في جانبها الاجتماعي والقيمي لتزعزع المعنى الثابت وتحقيق تعدد القراءات كتأويلات لاغائية لتحولات جمالية أكدت على أهمية نظرية المحاكاة في المشابهة والمماثلة وتأكيد الشكل والمضمون ومحاولة الاقتراب من الواقع ولكن بعلاقة هدم مع النص الكلاسيكي وأنساقه العقلية لأنه يعمل ضمن رؤى جديدة لا تمثل أعادة أنتاج أو نقل أو استنساخ حرفي للصورة، بل التغير في بعض العناصر ذات الطابع الأسطوري مثل الأدوات ذات اللهب الليزري ومركبات الفضاء الثابتة والمتحركة وبعض الحيوانات الهجينة في الشكل مع انعكاسات ضوئية براقة، إذ تم تشكيل الصورة وفق فكرة محفزة للخيال مفعمة بالإثارة والتحدي بما يوازي ويراعي السوق التجاري في الإعلان والدعاية.
خلق الفوضى والانهيار
فالمشاهد الأسطورية تأخذ بأسباب القوة أساساً للتغير والانتصار من خلال التحكم والسيطرة على العالم الرمزي وضمان التفوق والانفراد الأمريكي باتجاه الفوضى الخلاقة كسياسة عليا ممنهجة، وهو أحد المفاتيح التي أنتجها العقل الإستراتيجي الأمريكي في التعامل مع القضايا الدولية من خلال أحداث فوضى متعمدة وعدم استقرار مما يدل على خبث المقاصد الكامنة لغرض الوصول إلى موقف أو واقع سياسي جديد من خلال خلق أزمات وتفكيك المنظومة الإدارية والاجتماعية والثقافية وصولاً إلى الانهيار الكامل لمؤسسات الدولة لأحداث الفتن الداخلية والحروب الأهلية والتهجير والتوطين والتدويل مع الفساد الإداري والمالي تمهيداً لتقسيم البلاد.
الأسطورة قوة روحية
وإذا كانت الأسطورة صورة حضارية لطاقة الإنسان الرمزية كوسيط ثقافي ونسق فكري لحكاية سردية تجمع ما هو واقعي وخيالي فهي خطاب المجتمع عن نفسه وجذر تساؤلاته التي طالما أرقته وأرقت المفكر العراقي القديم وسببت له دواعي القلق والدهشة والخوف فكانت ملحمة كلكامش ملحمة القلق العراقي والإنساني، لم يكن غرض الأسطورة تقديم معلومات أو بيانات ما، بل علاجاً نفسياً لقوى اللاشعور لقرع باب القوة الروحية والمعنوية الرافعة للوجود الإنساني خاصة عندما تواجه البلاد مشاكل ومصاعب وكوارث وصراعات متعددة كما هو الحال في العراق القديم والجديد حيث موجات الغزو الخارجي والتخريب الداخلي لقوى محلية وطبيعية متمثلة بالفيضانات والإمطار والسيول والجفاف والتصحر وغيرها، ومن اجل البقاء والاستمرار بل الإبداع والتفوق يتطلب الأمر كفاحاً بطولياً ضد قوى الفوضى وطقوس الفناء ، وهنا في جانب الملصقات نستعير في مخططاتنا التجريبية التصميمية رموزا مثل الأفعى والتنين والطيور الجارحة كدلالات لصراع بأسلحة فتاكة عبر التاريخ القديم والحديث لتدمير الإرث الثقافي الإبداعي المعنوي والمادي لبلاد ما بين النهرين.
المعرفة وجود وقوة
ومفردة الصراع والحرب (كفكرة ومضمون في البناء الإنشائي للملصق الثقافي الحالي) ليست جديدة عند المفكر العراقي القديم ليجعل الوجود ينبع من أعماقها وإعطاء مشروعية قائمة لتعدد وتجدد وبقاء الصراع والإيمان بأن الصراع في جوهره لن يموت والطموح والأمل بتحقيق الانتصار قائم بل أن الحرب تتجدد بأعنف أشكالها وأشدها ضراوة وأن الوجود يقترح ويعيش التوازن في بحر من الصراع، والإيمان بأن الصراع بين طرفين أحدهما قائم على الحكمة يرافقها الإيمان بأن المعرفة قوة قادرة على إخضاع الوجود، وطرف آخر يعتمد الصراع القائم على ألوان البطش والقوة والقسوة هو صراع مدمر لمنظومة القيم والتعايش والفكر الإنساني .
وقد تأخذنا الدهشة أذا علمنا أن المفكر العراقي القديم يرى أن الصراع بقدر ما يشتد ويقوى بقدر ما يعبر عن تطوره المبدع الخلاق المذهل إذ أن صراع الوجود صراع (تقدمي) يمضي قدماً نحو أبداع أشكال الوجود الأخرى، وتقدمية الصراع تنبع من الحكمة التي تطرحها مما يعطيها معناً أخلاقياً ضد قوى العصيان والفوضى المدمرة، كما في صراع (مردوخ وتيامة) فهو صراع أخلاقي وهناك صراع بين الخير والشر بين (انكيدو كلكامش من جهة والوحش خمبابا من جهة أخرى) وهو صراع لإزالة الشر من على سطح الأرض، وهناك صراع مع القدر ممثلاً بالموت.
الصراع والحكمة
والمفكر العراقي القديم يرى أن الصراع الذي تقوده الحكمة بدون قوة عجز وخذلان والصراع الذي لا تقوده الحكمة هو صراع أعمى وباطل، وأن قوى الشر والفوضى مستعدة على الدوام لتهديد النظام مما يتطلب تأكيد جانب الحذر واليقظة ، وفي مجال تصميم الملصقات الثقافية الرقمية في الجانب الذهني نجد أن النظام في الكون يتطلب القضاء على قوى الفوضى وما تمارسه من فساد وفتن وخراب وإحلال النظام محل الفوضى وقوى الفوضى لن تعلن استسلامها فهي تندفع بين وقت وآخر للهدم والخراب وقد تم توظيفها فنياً من خلال مفردات وحوش جبارة لكائنات ضخمة لا تنتمي لعالم الإنسان أو الحيوان المعروف على شكل تنانين أو طيور عملاقة أو أفاعي ذات رؤوس متعددة تمثل مفردات كأسلحة لحيوانات شرسة عدوانية تهاجم الإنسان تجمع بين الواقعية والخيال شبيه بتكنولوجيا الأسلحة الحديثة القاصفة والذكية والموجهة والمتشظية ذات التدمير الواسع التي تستخدمها الولايات المتحدة الأمريكية ضمن خطط ميدانية عسكرية قائمة على الصدمة والرعب لغرض السيطرة على منابع النفط والثروات وتغير الأنظمة الحاكمة وضمان أمن إسرائيل.
الصراع والتوازن ثقافي قيمي
أننا نستنتج من كل ذلك أن الفوضى والخراب والحروب والانقسامات في العالم مصدرها ثقافي قيمي يرفض أيجاد صيغة لنظام عالمي جديد متوازن وعادل ومتعدد الأقطاب من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، كذلك قدرة الأسطورة على تزويد ذاكرة الإنسان بذاكرة تاريخية تعطيه أحساسا بوجود مبرراً لحياته في مواجهة الموت، من خلال النهوض بالملكات العقلية والحركية والتخيلية والشعورية والوجدانية في مواجهة كل الاحتمالات وبذل كل التضحيات والتبشير بالخلود المطلق من خلال خاصية الثبات والمواجهة. والسؤال المطروح ماذا لو غابت المقاربات الأسطورية ؟ هنا يصبح الموت مصدراً للرعب والفزع والحياة عبثية غير معقولة، و أذا كانت الأمم تعي مصيرها كأفراد وجماعات بفناء الجسد فلا بد من طقوس أسطورية أحتفائية ضمن عاداتها وتقاليدها لتحقيق التوازن والانسجام خلال صراعها مع قوى الفوضى من خلال مساهمات البطل المقاتل الأسطوري الشجاع واهب الحياة مثل (أنانا: رمز الحب والحياة والخصب) وأنكي (رمز الماء والعطاء) وننورتا (رمز الهواء والحركة) ضد قيم الفوضى والشر المتمثلة برمز (كور وآرشكال) في أسطورة الخلق البابلية، فقوى الخير والنظام تقهر قوى الفوضى المتوحشة وهي تمثل الجانب العقلاني والرؤية الحكيمة في أدارة الصراع الفردي والجمعي داخل الفرد والمجتمع وكبح جماح اللاشعور المندفع بالرغبة في الانتقام والاصطدام والسيطرة، من خلال الإنسان المتوازن المنسجم مع قيم الحضارة المحلية والعالمية وأبعادها الإنسانية. هذه المقاربة تلتقي مع مقاربات واشنطن المزيفة لتسويق ونشر فكرة الديمقراطية كذريعة لتحقيق الفوضى والسيطرة، كما أن المقاربات الأسطورية في الجانب التقني والتكنولوجي باستعارة مفاهيم التغريب واللامعقول واللامألوف كمقتبسات رمزية لقوى الفوضى المتمثلة بالكائنات المركبة مثل التنانين والأفاعي كقوى لم ولن تستسلم وهي مقاربات تلتقي مع مقاربات واشنطن باعتماد القوة العسكرية المتفوقة والساحقة مع اقتصاد ليبرالي متين وقوة إعلامية رقمية متمكنة. من أجل بناء نظام سياسي جديد للهيمنة الأحادية وتجاوز المنظمات الدولية وصولاً إلى تفكيك النظام الكوني القائم على سيادة الدول .
ومن خلال ما ذكر نوصي بدعم الشركات والمؤسسات الثقافية والإنتاج الفني للدخول إلى مرحلة السباق والتنافس البرمجي والرقمي التي تسهم في بلورة أنساق جديدة للتعبير الفني الحضاري للهوية الثقافية المحلية بعيداً عن الهويات المتشظية الفرعية القائمة على القومية والدين، مع الأخذ بنظر الاعتبار معايير السوق ومتطلبات المنتج الاستهلاكي لمعاير التكنولوجيا الرقمية، والهدف من كل ذلك تأسيس مشروع ثقافي لهوية وطنية تتلمس واقع الابتكار والإبداع والخيال ضمن أطر جديدة لما هو رمزي تفاعلي متعدد الرؤى والأفكار يتخذ من الأسطورة والتراث مصادر متجددة المعنى تسعى لإنتاج أعمال فنية رقمية عالمية.
نشرت في الولاية العدد 119

مقالات ذات صله