إنَّ المنهج القُرآني الحكيم قد أقرّ الاعتدالَ والتوازنَ في التعاطي مع الأشياء في البعدين التكويني والتشريعي وجوديّاً سلوكاً وخيارا.
قال اللهُ تعالى : {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(القمر49)، {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ}(الشعراء182).
وهذه الآية الشريفة (وزِنوا) هي نصٌ في الإرشاد إلى ضرورة اتخاذ سبيل الموازنة والعدالة فكرا وسلوكا في حَرَاكِ هذه الحياة المزدحمة بالمُتباينات والمُنافيات والمُختلفات.
لتُشير بدقة إلى عمق معنى التوازن والاعتدال والعدل في انتهاج الإنسان ومساراته.
وهي عامة في حُكمها ودلالتها وآثارها شاملة كلَّ ما يحدث وسيحدث من ظهور للمفاهيم الثقافية والسلوكية والفكرية في حياة الإنسان.
مؤكّدةً ضرورة وزانها وزاناً مستقيماً ومُعتدلا.
وتمثّلَ التعميمُ هنا في حذف مُتعلّق الأمر الارشادي (وزِنوا ) وموضوعه مُتركزاً على الشمولية والاستيعاب لكلّ شيء ممكن أن يخضع للميزان والوزن والاتزان وبقسط ودقة وبمعيار مستقيم.
ومنه تعاطي المرأة مع أشيائها كضرورة المحافظة على نفسها وشخصها وأهميّة تنميتها وسلامة علاقتها بالرجل والمحيط الاجتماعي.
وإنّما عنيتُ المرأةَ هنا كونها مُستهدفة كليّاً أينما حلّت وطلّتْ، لما لوجودها من ارتباط بالزينة والإغراء وغيرها.
وهذه حقيقة وجودية نصَّ عليها القرآنُ الكريمُ في قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء}آل عمران14، فتوجَّبَ عليها القيام بالقسط في حَراكها الحياتي طلباً لنجاة نفسها وكسباً لرضا الله تعالى في حقه.
قال تعالى: ناقداً اللاوزان السلوكي والنفسي وناهياً عنه في ما يخصُّ طبيعي المرأةَ وبعض مصاديقها في الواقع.
{ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}(الأحزاب33).
{ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً}(الأحزاب32).
{ وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً}(البقرة235).
{ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(النساء25).
ووجه سبحانه وتعالى باتجاه إيجاد التوازن الأخلاقي والسلوكي والشخصي في بنيويّة المرأة حياتيا وطبيعتها الجذّابة.
فقال عز وجل: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(النور31).
ثمَّ ضرب مثلاً أعلى في رائعة التوازن الحَرَاكي سلوكيّاً ونفسيّا في شخصيّة المرأة، وقال عز وجل: {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(القصص25).
وأقفُ هنا هُنيئةً عند مفردة (على استِحيَاء) بوصفها ثقافةً ومنهجاً صالحاً يُحتَذى به، والاستحياء هو الانقباض في العفة والحشمة نفسيّا وسلوكيّا ، ولعلّه والله تعالى العالم قد أًخَذَ مفهوم الحياء جزءاً ذاتيّا في بنيويّة المرأة الطالبة للتوازن والتكامل في أشيائها، حتى حكاه القرآنُ الكريم حالاً ووصفاً تلبّسَت به امرأةٌ غير معصومة، لكنها قد تربّتْ على مفاهيم ثقّفَ وعملَ عليها وبها أهلُ العصمة كشاهد الآية الشريفة هذه في قصة النبي شُعيب(عليه السلام): وكيف ما كان، واختصاراً للبيان ينبغي بنسائنا المُعاصرات انتهاج نهج المُوازنة في السلوك والفعل الاجتماعي فضلا عن النفسي.
فالتي على طريق التديَّن عليها أن لا تنجرف أمام عوامل التعرية الثقافية والعولميَّة الرقميّة الحديثة، وإن كلّفها الصمود تضحيات وتضحيات.
وأمّا التي سلكت فالفرصةُ ما زالت قائمةً أمامها في التحرر والاستقلال من وعن براثن الحضارة الجديدة في نطاقها السلبي، والرجوع إلى سبيل الدّين والأخلاق رجوعاً نصوحا وفعليّا صادقا.
نشرت في الولاية العدد 127