محمد الحسناوي
ان محاولة الكفار والمشركين في القضاء على الاسلام لم تقتصر على المحاربة الظاهرية وتنفير الناس عن دعوة النبي (صلى الله عليه وآله)، بل تعدت ذلك الى التصفية الجسدية، لذلك قاموا بقتل ضعفاء المسلمين في مكة، أما الرجال الأشداء الذين تستعصي مجابهتهم ويرهب جانبهم فقد احتالوا لقتلهم بعدة طرائق، فكان نصيب فتى الاسلام الاول أمير المؤمنين (عليه السلام) وافرا منها، إذ تعددت محاولات المشركين لاغتياله والتخلص منه لعلمهم بأن الاسلام سوف ينتشر بوجوده الشريف..
وفي هذ السطور سوف نستعرض بعض تلك المحاولات استعراضا تاريخيا. ان محاولات تصفيته جسديا واغتياله كانت تقترن في الغالب بوقت واحد مع محاولة اغتيال رسول الله (صلى الله عليه واله)، وإليك جملة من هذه المحاولات:
المحاولة الاولى : ليلة المبيت
تعرض أمير المؤمنين لاول محاولة اغتيال ليلة مبيته في فراش رسول الله (صلى الله عليه واله) حين تطوع للقيام بهذه المهمة الفدائية الخطيرة لكي يهاجر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بسلام، وان القوم كانوا قد اجمعوا على وضع اسيافهم في جسد رسول الله (صلى الله عليه واله) عند الفجر، فامر النبي (صلى الله عليه واله) امير المؤمنين (عليه السلام) في ان يبيت في فراشه فقال له امير المؤمنين (عليه السلام): أو تسلم يا رسول الله؟. قال: نعم، فأطمأن امير المؤمنين (عليه السلام) لذلك وبات قرير العين .
المحاولة الثانية : صبيحة الهجرة
لما وصل رسول الله(صلى الله عليه وآله) الى قبا كتب الى امير المؤمنين(عليه السلام) يامره بالسير اليه، والمهاجرة هو ومن معه، وكان الامام(عليه السلام) بعد ان توجه رسول الله قد قام صارخا بالابطح ينادي: من كان له قبل محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) امانة فليأت نرد اليه امانته.
فاحتال المشركون هذه المرة من جديد للغدر بامير المؤمنين(عليه السلام) وحبسه بمكة ليتسنى لهم قتله اذ ان عمير بن وائل الثقفي امر حنظلة بن ابي سفيان ان يدعي على علي(عليه السلام) ثمانين مثقالا من الذهب الاحمر وانها كانت وديعة عند محمد (صلى الله عليه وآله) وانه هرب من مكة، وانت وكيله، فان طلب منه الشهود فنحن معشر قريش نشهد عليه واعطوه على ذلك مائة مثقال من الذهب منها قلادة عشرة مثاقيل، فجاء وادعى لدى علي (عليه السلام) فاظهر الودائع كلها ورأى اسماء اصحابها، ولم يكن لما ذكره عمير من أساس، فنصح له نصحا كثيرا فقال: ان لي من يشهد بذلك وهو ابو جهل وعكرمة وعقبة ابن ابي معيط وابو سفيان وحنظلة. فقال: مكيدة تعود الى من دبرها. ثم امر الشهود ان يقعدوا في الكعبة ثم قال لعمير: يا اخا ثقيف اخبرني الآن حين دفعت وديعتك هذه الى رسول الله(صلى الله عليه وآله) اي الاوقات كان؟ قال: ضحوة نهار فاخذها بيده الى عنده. ثم استدعى أبا جهل وسأله عن ذلك؟ فقال: مايلزمني ذلك.
ثم استدعى ابا سفيان وسأله فقال: دفعها عند غروب الشمس واخذها من يده وتركها في كمه. ثم استدعى حنظلة وسأله عن ذلك فقال: كان ذلك عند وقوف الشمس في كبد السماء وتركها بين يديه الى وقت انصرافه. ثم استدعى عقبة وسأله عن ذلك، فقال تسلمها بيده وانفذها في الحال الى داره وكان وقت العصر، ثم استدعى عكرمة وسأله عن ذلك فقال: كان عند بزوغ الشمس اخذها فانفذها من ساعته الى بيت فاطمة.
ثم اقبل الى عمير وقال له: اراك قد اصفر لونك وتغيرت احوالك، قال: اقول الحق ولايفلح غادر، وبيت الله ما كان لي عند محمد وديعة، وانهما حملاني على ذلك، وهذه دنانير وعقد هند عليها اسمها مكتوب.
ثم قال علي(عليه السلام) ائتوني بالسيف الذي في زاوية الدار، فاخذه وقال: اتعرفون هذا السيف؟ فقالوا: هذا لحنظلة فقال: ابو سفيان، هذا مسروق، فقال علي (عليه السلام) ان كنت صادقا في قولك فما فعل مهلع عبدك الاسود؟ قال مضى الى الطائف في حاجة لنا. فقال(عليه السلام) هيهات ان تعود تراه ابعث اليه احضره ان كنت صادقا. فسكت ابو سفيان، ثم قام علي في عشرة عبيد لسادات قريش فبعثوا بعثة عراقها فاذا العبد مهلع قتيل فامرهم باخراجه، فاخرجوه وحملوه الى الكعبة فسأله الناس عن سبب قتله فقال: ان ابا سفيان وولده ضمنوا له رشوة عتقه وحثاه على قتلي في الطريق، ووثب عليَّ ليقتلني فضربت رأسه واخذت سيفه.
المحاولة الثالثة : في أثناء الهجرة
أما المحاولة الثانية فهي في أثناء التحاقه برسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو في طريق هجرته إلى المدينة، إذ ان رسول الله(صلى الله عليه وآله) استخلفه على فواطمه [فاطمة الزهراء، وفاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت الحمزة] ولم يدخل المدينة إلا وهنّ برفقته، فمن هناك أرسل إليه: أن أدَّ الودائع عني لأهلها والتحق بي، فطاف أمير المؤمنين(عليه السلام) في البيت اسبوعا ثم أعلن للملأ من قريش انه خارج غدا بعائلة رسول الله(صلى الله عليه وآله) والمستضعفين من المسلمين…
فلما ورد(صلى الله عليه وآله) المدينة نزل في بني عمرو بن عوف بقبا ترصدا لعلي(عليه السلام) وكتب اليه يأمره بالمسير إليه على يد أبي واقد الليثي، فتهيأ للهجرة وأمر ضعفاء المؤمنين أن يتسللوا ويستخفوا إذا ملأ الليل بطن كل واد، وخرج علي(عليه السلام) إلى ذي طوى بالفواطم وأيمن بنت أم أيمن مولاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) وغير ذلك وأبو واقد يسوق الرواحل فاعنف بهم فقال(عليه السلام): ارفق بالنسوة أبا واقد إنهن من الضعائف. قال: إني أخاف أن يدركنا الطلب. فقال: اربع عليك إن النبي(صلى الله عليه وآله) قال لي: يا علي إنهم لن يصلوا من الآن إليك بأمر تكرهه ثم جعل علي(عليه السلام) يسوق بهن سوقا رفيقا ويرتجز:
وليس إلا الله فارفع ظنكا
يكفيك ربّ الناس ما أهمكا
فلما شارف ضجنان(جبل قرب مكة) أدركه الطلب بثمانية فوارس فأنزل النسوة واستقبلهم منتضيا سيفه فأقبلوا عليه فقالوا: ظننت يا غدار أنك ناج بالنسوة ارجع لا أبا لك. قال(عليه السلام): فإن لم أفعل أترجعون راغمين؟ فدنوا من النسوة فحال بينهم وبينهن وقتل احدهم، وكان يشد على قومه شد الأسد على فريسته وهو يقول:
خلوا سبيل الجاهد المجاهد
آليت لا أعبد غير الواحد
فانتشروا عنه، فسار ظاهرا قاهرا حتى نزل ضجنان فمكث بها قدر يومه وليلته (مناقب آل أبي طالب 1/159)
المحاولة الرابعة: ليلة العقبة
لما فشلت محاولات المشركين وخمدت نيران كفرهم واصبحوا ممن لايعتد بقولهم وفعلهم دخلوا في الاسلام كارهين الا انهم هذه المرة انخرطوا في زمرة المنافقين وبحثوا عمن يوصلهم الى هدفهم الذي سعوا اليه في شركهم فوجدوا بغيتم في بعض من يحسب على الصحابة، فكانت ليلة العقبة اخطر ليلة مر بها الاسلام في حياة الرسول، إذ ارادوا بها القضاء على الاسلام كله -نبوة وولاية- اذ انقسموا فريقين، فرقة تنفر بناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الوادي وفرقة تدبر مكيدة في المدينة لامير المؤمنين.
فلقد رام الفجرة ليلة العقبة قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على العقبة ورام من بقي من مردة المنافقين قتل علي بن ابي طالب (عليه السلام) فما قدروا على مغالبة ربهم، حملهم على ذلك حسدهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في علي (عليه السلام) ولما فخم من امره وعظم من شأنه.
اذ انه لما خرج الرسول من المدينة وقد خلف الامام علي(عليه السلام) عليها قاله له: ان جبرائيل اتاني وقال لي يامحمد ان العلي الاعلى يقرئك السلام ويقول لك يامحمد اما ان تخرج انت ويقيم علي او يخرج علي وتقيم انت لا بد من ذلك، فان عليا قد ندبته لاحدى اثنتين، لايعلم احد كنه جلال من اطاعني فيه وعظيم ثوابه غيري، فلما خلفه اكثر المنافقين الطعن فيه فقالوا: مله وسئمه وكره صحبته، فتبعه علي(عليه السلام) حتى لحقه وقد وجد مما قالوا فيه، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): ما اشخصك عن مركزك؟ قال: بلغني عن الناس كذا وكذا، فقال له: اما ترضى ان تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لانبي من بعدي، فانصرف عليّ(عليه السلام) الى موضعه، فدبروا ان يقتلوه وتقدموا في ان يحفروا له في طريقه حفيرة طويلة قدر خمسين ذراعا، ثم غطوها بحصر رقاق، ونثروا فوقها يسيرا من التراب بقدر ماغطوا وجوه الحصيرة وكان ذلك على طريق علي (عليه السلام) الذي لابد من سلوكه، ليقع هو ودابته في الحفيرة التي عمقوها، وكان ما حوالي المحفور ارضاً ذات حجارة، ودبروا على انه اذا وقع مع دابته في ذلك المكان، كبسوه بالاحجار حتى يقتلوه.
فلما بلغ علي (عليه السلام) قرب المكان، أنقذه الله تعالى بمعجزة من معاجزه الظاهرة، وعلم علي(عليه السلام) ما يدبر له ولخير الأنام محمد (صلى الله عليه وآله)، فاشار بعض اصحاب امير المؤمنين (عليه السلام) بان يكاتب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذلك، ويبعث رسولا سريعا.
فقال امير المؤمنين (عليه السلام): ان رسول الله الى رسوله اسرع وكاتبه اليه اسبق فلا يهمكم هذا.
فلما قرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من العقبة التي بازائها فضائح المنافقين، نزل دون العقبة ثم جمعهم فقال لهم: هذا جبرائيل الامين يخبرني: ان عليا دبر عليه كذا وكذا، فدفع الله عز وجل عنه بالطافه وعجائب معجزاته بكذا وكذا انه صلّب الارض تحت حافر دابته، وارجل اصحابه ثم انقلب على ذلك الموضع علي(عليه السلام) وكشف عنه ورأيت الحفيرة، ثم ان الله عزوجل لأمها كما كانت لكرامته عليه، وانه قيل له كاتب بهذا وارسل الى رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال عليّ: رسول الله اسرع وكاتبه اليه اسبق. ولم يخبرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما قال علي (عليه السلام) على باب المدينة ان من مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) سيكيدونه ويدفع الله عزوجل عنه، فلما سمع الاربعة والعشرون من اصحاب العقبة ما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) في امر علي (عليه السلام) قال بعضهم لبعض: ما امهر محمدا بالمخرقة ان فيجا-الفيج الرسول السريع- مسرعا اتاه او طيرا من المدينة من بعض اهله وقع عليه، ان عليا قتل بحيلة كذا وكذا، وهو الذي واطأنا عليه اصحابنا، فهو الآن لما بلغه كتم الخبر وقلبه الى هذه يريد ان يسكن من معه لئلا يمدوا ايديهم عليه، وهيهات والله مالبث علي بالمدينة الا حينه، ولا اخرج محمداً الى هاهنا الا حينه وقد هلك عليّ وهو ههنا هالك لامحالة، ولكن تعالوا حتى نذهب اليه ونظهر له السرور بأمر علي، يكون اسكن لقلبه الينا الى ان نمضي فيه تدبيرنا، فحضروه وهنأوه على سلامة علي من الورطة التي رامها اعداؤه.
المحاولة الخامسة : مؤامرة معاوية
كانت محاولات معاوية لاغتيال أمير المؤمنين(عليه السلام) منها ما رواه الأصبغ بن نباته قال : صلينا مع أمير المؤمنين (عليه السلام) الغداة فإذا عليه ثياب السفر قد أقبل فقال: من إين؟ قال: من الشام، قال: ما أقدمك، قال: لي حاجة، قال: أخبرني وإلا أخبرتك بقضيتك، قال: أخبرني بها يا أمير المؤمنين؟ قال: نادى معاوية يوم كذا وكذا من شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا: من يقتل عليا فله عشرة آلاف دينار فوثب فلان وقال: أنا، قال: أنت فلما انصرف إلى منزله ندم وقال أسير إلى ابن عم رسول الله وأبي ولديه فأقتله؟
ثم نادى مناديه في اليوم الثاني من يقتل عليا فله عشرون ألف دينار فوثب آخر فقال: أنا، فقال: أنت، ثم إنه ندم واستقال معاوية فأقاله ثم نادى مناديه في اليوم الثالث: من يقتل عليا فله ثلاثون ألف دينار فوثبت أنت وأنت رجل من حمير قال: صدقت، قال: فما رأيك تمضي إلى ما أمرت به أم ماذا؟ قال: لا ولكن انصرف، قال: يا قنبر أصلح له راحلته وهيء له زاده وأعطه نفقته(مناقب 2/97).
وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: بلغ معاوية أن عليا (عليه السلام) يستنفر الناس بالكوفة للمسير إليه إلى الشام وذلك بعد الموادعة والحكومة فبلغ ذلك من معاوية المبالغ وجعل يدس الرجال إلى علي(عليه السلام) للقتل ولعمل الحيلة في ذلك إلى أن كاتب عمرو بن حريث المخزومي إلى الكوفة فقدم الرجل إلى عمرو بن حريث فأنزله مكاناً يقرب منه.
وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) لا يرى المسح على الخفين وكان يجلس في مسجد الكوفة الأعظم يفتي في الناس ويقضي بينهم حتى تجب الصلاة فيخلع الخفين ويظهر الرجلين ويصلي بالناس فإذا أراد أن ينصرف إلى أهله لبس خفه وانصرف فأجمع الرجل أن يرصد عليا(عليه السلام) فإذا خلع خفيه جعل في أحدهما أفعى أو قال ثعباناً مما كان معه ففعل ذلك وجعل الأفعى أو قال الثعبان في أحد الخفين، فلما أراد أمير المؤمنين أن يليه انقض عقاب فاختطف الخف وطار به في الجو ثم طرحه فخرجت الأفعى فقتلها.
وإن أمير المؤمنين قال(عليه السلام) للناس: خذوا أبواب المسجد، فأخذت الأبواب ونظروا فإذا برجل غريب وهو الذي أرصد عليا بما صنع فاعترف أن معاوية بعثه لذلك إلى عمرو بن حريث.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) جيئوا بعمرو ابن حريث ولا تنالوه بسوء فانطلقوا فجاؤوا به ترتعد فرائصه فأرادوا قتله فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): دعوه فليس هو ولا معاوية بقاتلي ولا يقدران على ذلك إن قاتلي من مراد ضرب من الرجال أعسر أيسر أصفر ينظر بعيني شيطان، وجعل أمير المؤمنين (عليه السلام) يصفه، قال(عليه السلام): يقتلني في الشهر الحرام لا بل في شهر الصيام عهد من النبي الأمي (صلى الله عليه واله) إلي بذلك وقد خاب من افترى.
نشرت في الولاية العدد 82