القرآن الكريم في لغة الاحتكام

غلاف القرآن

عبد الغني باقر الجابري

 

عندما تتزاحم الروايات وتشتبك الأخبار في ساحات الجدال وحلباته (وكل يدّعي وصلا بليلى) كحالة مزعجة وقائمة شكتها العقول حتى كلّت الألسن في مناظرات الجدال، عند ذلك يبقى باب الشك مفتوحاً على مصراعيه وكأن المسألة قد هوت في حساب العقم واستحوذ عليها العجز واستبد بها اليأس.
لذا ومن أجل الوقوف على حقائق الخلاف والاختلاف وحسمها بلغة الفصل القطعي واليقين الجازم نرجو من أصحاب الفكر المبادرة الى الاحتكام بالقرآن الكريم وبما ورد فيه من الآيات البينات كحجة متيقنة وواضحة لا ينالها الشك والريب ردا على الطعون وسرف الاتهام الظالم بحق الفكر الإمامي الملتزم.

 

فكم تعالت الأبواق ودقت الطبول بأعلى أصواتها إيقاعا على نغمة الاتهام بالشرك يراهنون فيها على مزاعم التوحيد المشبوه والملفق، زاعمين ان في توسلنا بأهل البيت (عليهم السلام) غلواً يتنافى مع عقيدة التوحيد والإيمان بالله بدعوى ان من قارن الله تعالى بالوسائل والأسباب فقد اشرك به شيئا آخر، ولذلك نحتكم بالقرآن الكريم لنقف على مصاديق الشرك والتوحيد ومصاديق الهدى والضلال.
وابتغوا إليه الوسيلة:
فما دعانا الى زيارة الشهداء واللجوء الى مراقدهم الا ايماننا بالقرآن الكريم الذي حكم بحياتهم ونهانا عن القول بموتهم، ولذا حتم علينا ان نعايشهم في أرواحهم وانفاسهم بزيارتهم والسلام عليهم مع ما يقارن هذا الاعتقاد من العهود وإبرام العقود وهو ما يجعلنا وإياهم معا في وحدة التعايش رافضين ما يحول بيننا وبينهم من زمن فمعهم معهم في كل الأحوال حضورا في مشهد الحب والولاء.
ولا نعرف كيف فسروا ايماننا بحياة الشهداء ضرباً من الغلو او قربا من الشرك ولم ينتبهوا إلى أن في انكارهم لهذه الحقيقة ضربا من الكفر ودليلا على الشرك، فتبا لهم ولسوف يعلمون.
ومن دلائل الكفر والشرك بالله تعالى انكارهم السببية الطبيعية كحقيقة واقعة وسائدة من حقائق النظام الكوني، وقد اشار اليها قوله تعالى: (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ)(ص/10) وكذا قوله تعالى (وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ)(المائدة/35)، وفي هذا المعنى جاء قوله تعالى: (هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ)(الأنفال/62).
اذن فلتخرس أبواق الاتهام بالشرك ومن يراهن على حساب التوحيد المفترى عليه فالأسباب والمسببات سنة ماضية من سنن الله سبحانه وتعالى فمن اقرها فقد آمن بالله ومن خالفها فقد كفر واشرك، وفي الكتاب المجيد آيات بينات تقر بحقيقة الوسائط كسنة من سنن الله الماضية في سلطانه وملكوته.
وما قصة يوسف وابيه الذي ابيضت عيناه من الحزن عنا ببعيدة عندما اخبره اخوته ان اباك قد ذهب بصره فانظر ماذا فعل؟ قال: (اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ)(يوسف/93)، لذا فاعلم ان يوسف -كنبي من انبياء الله المعصومين- قد استعان بقميصه على شفاء ابيه وفعلا تحقق الشفاء وعاد البصر الى ابيه.
ونحن كلما تعلقنا بالوسيلة كأداة من ادوات الله الفاعلة قامت قيامتهم (لا تشركوا بالله لا تشركوا بالله) عجبا لهم كيف ينكرون ان تكون لله وسائل وبيده ملكوت كل شيء؟
نعم إنما تعني هذه الحقائق بهذه القرائن ان الوسائل مهما كانت وكيف إنما تخضع لأمر الله وسياقه وفي خطه وسلطانه، وما في ذلك من تأثير على مدلول التوحيد وفحواه، فمن استسلم لهذا العقل الكوني واذعن فقد آمن بالله ومن استقل برأيه ونأى فقد كفر واشرك ناكرا ان يكون لله سلطان على كل مفردات الوجود وانها لم تحد عن سياقه وامره.
آيات تؤيد الفكر الامامي:
ومما يدعم الفكر الإمامي ويؤكد مرجعية أهل البيت(عليهم السلام) ما ورد في دقائق علم النحو في القرآن وذلك من خلال الحكم الإعرابي الوارد في الكلمة (رسولا) الواردة في قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْرًا. رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ)(الطلاق/10-11) فلما وقع اعراب (رسولا) بدلا من (ذكرا) يتعين اذن من خلال هذه الحقيقة النحوية ان المراد من قوله: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (النحل/43) هو: واسألوا أهل الرسول(عليهم السلام) وفي هذا نص واضح على لزوم مرجعية أهل البيت (عليهم السلام).
وهكذا في الجمع بين صلاتي الظهرين والعشاءين الذي يأخذ به الفقه الإمامي، إذ نجد ما يشير إلى ذلك ومما يؤيده قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا)(الإسراء/78) فقد دلت هذه الآية على ان أداء الصلاة اليومية يتعين في ثلاثة أوقات: الأول عند الزوال والثاني عند المغرب والثالث عند طلوع الفجر، ولا يتحقق ذلك إلا في حالة الجمع بين صلاتي الظهرين وصلاتي العشاءين، وفي هذا تأييد لما يذهب اليه الفقه الإمامي في خصوص الجمع بين الصلاتين.
مرجعية آل البيت ومكانتهم:
ومما ورد في الكتاب العزيز حقيقة ان أنبياء الله(عليهم السلام) ما كان لهم أن يختاروا أوصياءهم وخلفاءهم إلا بأمر الله وجعل من عنده كما نص على هذه الحقيقة قوله تعالى: (وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)(طه/29 ـ 32) فما لبث حتى أجابه الله سبحانه بقوله: (وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا)(الفرقان/35)، ومساواة بموسى(عليه السلام) دعا رسول الله(صلى الله عليه وآله) الله عز وجل ان يجعل من اخيه علي وصيا ووزيرا فما لبث حتى استجاب الله له فأنزل قوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(المائدة/55)، ارجع الى تفسير هذه الآية تجد الراوي في ذلك ابا ذر الغفاري وقد تصدق امير المؤمنين على مسكين وهو راكع وهذا يعني ان أوصياء الأنبياء وخلفاءهم إنما هم محسوبون على ملاك الأنبياء وان خلافة رسول الله وشرعيتها تتوقف على نص من الله سبحانه وجعل منه، وليس للأمة في أمرها من نصيب.
ومما يعزز الفكر الإمامي ما تجده في العناية الربانية المخصوصة بحق آل محمد (عليهم السلام)، إذ ورد قوله تعالى في هذا الخصوص (سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ)(الصافات/130) وقد اقتصر سلام الله على ذوات الأنبياء وحدهم كما في قوله تعالى (سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ)(الصافات/79)، و(سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ)(الصافات/109)، و(سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ)(الصافات/120) فماذا تفهم من هذا التخصيص بعد أن اذهب الله عن أهل البيت الرجس وطهرهم تطهيرا؟
نعم لا يفيد هذا التخصيص ولا يعني إلا ان يكون لهم شأن مخصوص في خلافة الله بعد الرسول (صلى الله عليه وآله).

 

نشرت في مجلة الولاية العدد 76غلاف القرآن

مقالات ذات صله