معالجات قرآنية.. الفقر انموذجاً

url

احمد جاسم النجفي

إن القرآن الكريم بوصفه دستور الأمة ومصدر تشريعها الرئيس، وانه تبيان لكل شيء، لم يغفل المشكلة الإنسانية الاجتماعية والدينية وغيرها، كبيرة كانت أم صغيرة إلا وأشار إليها ووضع لها الحل المناسب، قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)الإسراء/9 وقال أيضا: (ولِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً)الإسراء/12 وقال أيضا: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) الكهف/54.

 

ويعد هذا المقال المتواضع محاولة يسيرة لإثارة انتباه القارئ حول بعض تلك المشاكل التي اشارت إليها الآيات القرآنية ووضعت العلاج المناسب لها(1) وقد اخترنا فيه احدى المشكلات التي عانى منها المجتمع قديما ولم يزل يعاني منها في وقتنا الحاضر على الرغم من التطور الحاصل في الحياة الإنسانية، ألا وهي مشكلة الفقر.
ويعد الفقر من الآفات الاجتماعية التي عانت منها الأمم، وقد عالج القرآن الكريم تلك الآفة بأكثر من جانب وسوف نقوم بعرض الآيات القرآنية التي دلت على هذه المشكلة ومعالجتها وهي:

1. الحث على وجوب إخراج الصدقة:
قال تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) البقرة/268.
اذ تذكر الآية أن الشيطان وعد أنكم متى أخرجتم من أموالكم الصدقة وآتيتم الزكاة الواجبة عليكم في أموالكم افتقرتم، ويأمركم أيضا بالفحشاء من المعاصي وترك طاعته(2)هذا وجه، أما الوجه الآخر فالمراد بالفحشاء هنا – وبحسب مقتضى السياق- هو البخل وترك الإنفاق في كثير من الموارد، اذ يكون نوعا من المعصية والإثم، على الرغم من أن مفردة (الفحشاء) تعني عادة الأعمال المنافية للعفة، ولكننا نجد أن هذا المعنى ضعيف ولا يناسب السياق(3) ، حتى ان بعض المفسرين صرح بأن العرب يسمون الشخص البخيل (فاحش)(4)والآية الكريمة تصرح بأن الله تعالى يعدكم بالمغفرة منه والستر عليكم والصفح عن العقوبة، و(فضلا) يعني: ويعدكم بأن يخلف عليكم خيرا مما تصدقتم به ويتفضل عليكم بالزيادة في أرزاقكم(5).

2- الحفاظ على كرامة الفقير عند دفع الصدقة له:
قال تعالى: (إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ) البقرة/271
دلّت الآية المباركة على أمرين: الأول: وجوب الإنفاق على الفقراء للارتقاء بواقعهم الاقتصادي والاجتماعي.
والثاني: بيان شاكلة ذلك الإنفاق فمعنى الآية: (إن تظهروا الصدقات وتعلنوها فنعم الشيء، وان تُخفوها وتُعطوها الفقراء في السر فهو خير لكم، أي فالإخفاء خير لكم وابلغ في نيل الثواب لذلك الأمر)(6)وقد حثّ القرآن الكريم على إخفاء الصدقة للحفاظ على شعور الفقراء وأحاسيسهم وقد كرمهم الله على لسان رسوله الكريم إذ جعلهم من السبعة الذين يظلهم الله في ظله (رجل تصدق بصدقة فأخفاها لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه)(7)، ومما يشير الى عناية القرآن بالفقراء والحرص على حفظ كرامتهم ما خصهم به من زكاة الأموال قال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) التوبة/60 فالصدقات التي هي من زكاة الأموال عائدة الى هؤلاء(8) وقد جعل الله تعالى الفقراء في مقدمتهم.
ومن جملة عناية القرآن الكريم بالفقير ذكره تصريحا وتلميحا، وذلك بإيراد بعض لوازمه والحث على رعايته قال تعالى: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) الذاريات/19، (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) المعارج/25.
ومن صور العناية بالفقراء ما يخص الفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم كرها فقد خصهم الله بالغنائم التي يغنمها المسلمون(9)، مع جملة أصناف أخرى ذكرت في الآيتين المباركتين اعتناء بهم ورعاية لهم قال تعالى: (مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) الحشر/8.

3. أصناف الفقراء الذين يستحقون النفقة:
بيّن القرآن الكريم أصناف الفقراء الذين يستحقون النفقة في قوله تعالى: (لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ) البقرة/273.
لما أمر سبحانه وتعالى بالنفقة ورغّب فيها بأبلغ وجوه الترغيب عقب ذلك بيان أفضل الفقراء الذين هم مصرف الصدقات، وابتدأ بالفقراء الذين أحصروا في سبيل الله، وهم الذين حبسوا ومنعوا من التصرف في التجارة للمعاش إما لخوف العدو من الكفار واما للمرض والفقر وإما لإقبال على العبادة، وقد رجّح بعض المفسرين أنهم حبسوا أنفسهم عن التقلب لاشتغالهم بالعبادة والطاعة بقرينة (في سبيل الله) (10).
وقوله تعالى (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ) أي يحسبهم الجاهل بحالهم أغنياء من التعفف، دلالة على أنهم غير متظاهرين بالفقر إلا مالا سبيل لهم الى ستره من علائم الاحتياج من لباس أو ضعف بدن او نحوهما(11)فأتى عليهم بالتعفف وعدم السؤال وأن معنى(تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ) أي بظهور آثار الفقر والحاجة عليهم(12).

4. واجبات الفقير:
مثلما حرص القرآن الكريم على معالجة مشكلة الفقر بما ألزم به الغني وما ألزم به ذوي الصدقات بدفعها له وغير ذلك من الأمور، كذلك ألزم الفقراء بجملة أمور ينبغي ان يفعلها بوصفها احدى معالجات مشكلة الفقر(13) فقد أفاضت علينا كتب الأخلاق بكثير من هذه الأمور منها:
1. ينبغي للفقير ألا يكون كارها لفقره، من حيث أنه فعل الله ومن حيث انه فقر، بل يكون راضيا به طالبا له فرحا به لعلمه بغوائل الغنى.
2. أن يكون متوكلا في باطنه على الله تعالى واثقا به في اتيان قدر ضرورته ويكون قانعا به كارها للزيادة عليه، منقطع الطمع عن الخلق، غير ملتفت الى ما في ايديهم غير حريص على اكتساب المال كيف كان.
3. أن يكون صابرا شاكرا على فقره.
4. ينبغي على الفقير ان يظهر التعفف ويستر الفقر وان يخالط الأغنياء ولا يرغب في مجالستهم ولا يتواضع لهم لأجل غناهم وان لا يسكت عن ذكر الحق مداهنة للأغنياء وطمعا بما في أيديهم(14)
وهكذا تبين من عرضنا المتواضع للآيات الكريمات عمق عناية القرآن الكريم بهذه المشكلة الاجتماعية ووضعه للمعالجات الوافية التي لو أخذت بها الأمم لانحسرت مشكلة الفقر انحسارا كبيرا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. مشكلات اجتماعية ومعالجات قرآنية، حميد القبلي: بحث نشر في مجلة ن والقلم ص85.
2. تفسير التبيان للطوسي:2/345
3. تفسير الميزان: 2/226 ـ 227، تفسير الأمثل: 2/312
4. تفسير البيان: 1/431 نقلا ان تفسير الأمثل: 2/312
5.التبيان الطوسي: 22/347، ومجمع البيان الطبرسي: 2/171.
6.البيان، الطوسي: 2/350 ، 351، الأمثل: 2/319.
7. عوالي اللآلي، ابن أبي جمهور الاحسائي: قم المقدسة: 1405هـ انتشارات سيد الشهداء: 2/17.
8. وسائل المرتضى: 3/50 الشريف المرتضى، تقديم أحد الحسيني
9. مشكلات اجتماعية ومعالجات قرآنية: 86
10. تفسير الأمثل: 2/179
11. تفسير التبيان، الطوسي: 2/354 تفسير الميزان: 2/229).
12. تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي: 4/370
13. مشكلات اجتماعية ومعالجات قرآنية: 24
14. جامع السعادات محمد مهدي النراقي، قم المقدسة انتشارات اسماعليان: 1/431.

نشرت في مجلة الولاية العدد 73

مقالات ذات صله