احمد عبد الرسول
كان العصر الذي عاش فيه مولانا الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) زاخرا بالتحديات وفي الكوفة- خاصة – حيث كان الإمام الصادق(عليه السلام) يملي على تلامذته ومستمعيه دروسه، فقد كانت تعجّ بالتيارات الفكرية، الإسلامية منها او غيرها من الفرق المنحرفة.
ووسط هذا الطوفان الفكري المتلاطم الأمواج مع ما تحمله الدولة الإسلامية من اضطرابات سياسية واسعة في كل أطرافها حيث حلول خريف الدولة الأموية بدأ مع ظهور طلائع الدولة العباسية، وفي الكوفة أيضا كانت الأحداث تتطور، وسط كل هذه الانقلابات الهائلة كان الإمام أبو عبد الله «عليه السلام» مجاهدا عظيما إماما قيّما على رعيته مؤديا رسالة جده «صلى الله عليه واله» مبلغا آيات الله عز وجل إلى خلقه باتم تبليغ وأكمله بحسب ما يقتضي الظرف وتسمح القابليات بالإمداد، ولا يسع المقام التعرض لبياناته الشاملة لهذه الفرق، الا أننا نخص بالذكر -بشكل موجز- ردوده على الملاحدة في زمانه التي تعد ردودا لكل زمان على كل ملحد.
والملاحدة بأبسط عبارة هم المنكرون لوجود إله مدبر صانع للعالم، وعزوا كلّ هذه المخلوقات الى الدهر او الصدفة في الوجود او الى الطبيعة كالشيوعية في عصرنا فكرا وعقيدة.
وكان هؤلاء ينتشرون في اوساط المسلمين يبثون افكارهم وسمومهم بحجج مغطاة بصبغة اسلامية ، إذ ان كبارهم كانوا على ظاهر الاسلام كابن المقفع الاديب وابن ابي العوجاء الدهري ، اضافة الى ذلك كان بلاط الدولتين الاموية والعباسية يستعين بهم لخبراتهم في الطب والترجمة والهندسة والبناء، فنجد -مثلا- طبيبا هنديا يحضر في مجلس الخليفة العباسي الدوانيقي ويقرأ كتب الهند في الطب على المسلمين ثم يلتفت الى الإمام الصادق (عليه السلام) ويقول له:
يا أبا عبد الله: أتريد مما معي شيئا؟ قال: لا، فإن ما معي خير مما معك، فاستغرب الهندي وسأله وما هو؟ فقال: (أداوي الحار بالبارد، والبارد بالحار، والرطب باليابس، واليابس بالرطب، وأرد الأمر كله إلى الله عز وجل، وأستعمل ما قاله رسوله(صلى الله عليه وآله) وأعلم أن المعدة بيت الداء والحمية هي الدواء، وأعود البدن ما اعتاد)(الخصال ص 511 )
ثم يبين الإمام له علل تركيب جسم الإنسان مفصلا إياها بطرق علمية، فاضطر الهندي في آخر الأمر إلى أن يعلن إسلامه في بلاط الخليفة المنصور أمام الإمام الصادق(عليه السلام).
وانظر إلى حوار الامام(عليه السلام) في افحام رجل ملحد يدعى ابن أبي العوجاء، اذ تقابل مع الإمام(عليه السلام) في مكة المشرفة وأنكر وجود إله في هذا الكون، فأشار الإمام(عليه السلام) إلى الحجيج قائلا له: (إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء.. وهو على ما يقولون – يعني أهل الطواف- فقد سلموا وعطبتم، وان يكن الأمر على ما تقولون.. وليس كما تقولون فقد استويتم وهم).
وبعد حديث مطول للامام حول وجود الخالق، رجع ابن ابي العوجاء الى اصحابه الملاحدة يقول لهم: ما هذا ببشر وإن كان في الدنيا روحاني يتجسد إذا شاء ظاهرا ويتروح إذا شاء باطنا فهو هذا(الكافي : ج 1 ص 74).
وهذا ملحد آخر اعترف من خلال محاورته مع الإمام الصادق(عليه السلام) أن الإمام محيط بآراء أهل الملل والنحل قبل الإسلام، عارف بالدين الذي تدين به تلك الطوائف، يقول سائلا أبا عبد الله(عليه السلام): فما قصة ماني – يعني مؤسس مذهب المانوية-
فقال(عليه السلام): (متفحص أخذ بعض المجوسية فشابها ببعض النصرانية، فأخطأ الملتين ولم يصب مذهبا واحدا منهما، وزعم أن العالم دبر من إلهين، نور وظلمة، وأن النور في حصار من الظلمة على ما حكينا منه، فكذبته النصارى، وقبلته المجوس). (الاحتجاج : ج 2 ص 91).
وما احوجنا في هذا الزمان الى المعرفة بالعقائد والملل او ما يسمى بـ(دراسة الاديان المقارنة) لا سيما بالنسبة للدعاة والمبلغين، فان كل اهل دين في العالم اعدوا اليوم حجتهم لمذهبهم ودينهم واعتقادهم، واصبحوا مستعدين لطرح أيّ شبهة تحرف المرء عن الفطرة والتوحيد الحق.
وهذا الجعد بن درهم الذي جاء بقارورة وجعل فيها ماء وترابا، فاستحال دودا وهوامّ، فقال لأصحابه: (أنا خلقت ذلك لأني كنت سبب كونه، فبلغ ذلك الامام جعفراً(عليه السلام) فقال: ليقل كم هي؟ وكم الذكران منه والإناث إن كان خلقه؟ وكم وزن كل واحدة منهن؟ وليأمر الذي سعى إلى هذا الوجه أن يرجع إلى غيره) فانقطعت حجة الملحد وهرب(مناقب ال ابي طالب :ج4ص 278)
وكم من محاورات من هذا اللون، كانت دليلا يأخذ بالسامع الى دروب الهداية والطمأنينة والتوفيق والعصمة من الضلالة ونور الفكر وفرصة للتأمل.
اننا من هذا المنطلق نأمل ان نتعلم من ائمتنا المحاورة العلمية الشافية بالتي هي احسن من دون ان نثلم من ديننا وعقيدتنا شيئا، إذ ان العقيدة قوانين الهية وليست صفقات اقتصادية او سياسية يحق للاخر التنازل عن شيء منها.
نشرت في الولاية العدد 77