الترجمة ودورها في التبادل المعرفي

stack_of_books

الشيخ ليث العتابي

إن ممارسة عملية الترجمة قديمة تأريخياً، اذ ان للترجمة تاريخاً طويلاً ومتشعباً بتشعب الفروع التي أوجدها الإنسان في حياته، ولقد تزامن عمر الترجمة مع عمر الكتابة، فالترجمة رافقت الكتابة كظلها.
نعم ان الترجمة في بدايتها قد أوجدتها الحاجة والعفوية وقضايا التبادل التجاري، لكنها تدريجيا أصبحت حاجة ملحة وضرورة لا غنى عنها، وأصبحت مطلوبة في موارد كثيرة تعدت حاجزي (الغاية) و(النخبة) .

 

تأريخيا يذكر بأن أقدم ترجمة في العالم الغربي تعود إلى عام 240 قبل الميلاد، وذلك حين قام العبد الإغريقي المعتوق (ليفيوس اندرونيكوس) بترجمة الأوديسة شعرا إلى اللاتينية، ثم تلتها محاولة المترجمين (ناييفيوس) و(اينيوس) بترجمة المسرحيات الإغريقية إلى اللاتينية، ثم توالت الترجمة بعد ذلك من الإغريقية إلى اللاتينية وبالعكس .
أما في التاريخ الإسلامي فالمحاولات الأولى كانت في عهد الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) من خلال إرساله الكتب إلى الملوك بلغاتهم، وكذلك إرساله بالكتب والرسائل الى اليهود والنصارى بلغاتهم.
ثم كان للعرب دور في تولي دفة حركة الترجمة من الإغريقية إلى العربية عن طريق اللغة السريانية، وتعد دار الحكمة في بغداد أول مدرسة للترجمة، إذ أسهمت بدور فاعل، ورئيس بنقل الفكر اليوناني إلى اللغة العربية، ومن ذلك الفلسفة اليونانية وترجمة أعمال أرسطو وافلاطون وهيبوقراط وقالن وغيرهم.
ثم تلتها حالة من الانحدار والانعكاس في الوقت نفسه، إذ انعكست حركة الترجمة من العربية الى اللغات الأوربية فانتقل مركز الترجمة من بغداد إلى طليطلة في النصف الأول من القرن الثاني عشر الميلادي، وكان رائدها (رايموند منارتيني) رئيس اساقفة طليطلة، فترجمت كتب وعلوم عديدة، ومن هذه الترجمات ما قام به (روبرت دي ريتينيس) اذ قام بأول ترجمة للقرآن الكريم بين عامي (1114 ـ 1143م)، ومن ثم بدأت الترجمة من الاغريقية الى اللاتينية.
لقد (كان للعرب أيام نشطت الترجمة في عصر المأمون مذهبان في نقل كتب اليونانيين الى العربية وذكرهما البهاء العاملي في (الكشكول) عن الصلاح الصفدي فقال: وللترجمة في النقل طريقان أحدهما: طريق يوحنا بن البطريق، وابن الناعمة الحمصي، وغيرهما، وهو طريق ان ينظر الى كل كلمة مفردة من الكلمات اليونانية وما تدل عليه من المعنى فيأتي الناقل بلفظة مفردة من الكلمات العربية ترادفها في الدلالة على ذلك المعنى فيثبتها وينتقل الى الأخرى كذلك حتى يأتي على جملة ما يريد تعريبه، وهذه الطريقة رديئة لوجهين، احدهما أنه لا يوجد في الكلمات العربية كلمات تقبل جميع كلمات اليونانية ولهذا وقع من خلال التعريب كثير من الألفاظ اليونانية على حالها، الثاني أن خصوص التراكيب والنسب الاستنادية لا تطابق نظيرها من لغة أخرى دائما، وأيضا يقع الخلل من جهة استعمال المجازات وهي كثيرة في جميع اللغات.
الطريق الثاني في التعريب طريق حنين بن إسحاق والجوهري وغيرهما، وهو أن يأتي الجملة فيحصّل معناها في ذهنه ويعبر عنها من اللغة الأخرى بجملة تطابقها سواء ساوت الألفاظ أم خالفتها، وهذا الطريق أجود ولهذا لم تحتج كتب حنين بن إسحاق الى تهذيب إلا في العلوم الرياضية لأنّه لم يكن قيما بها خلاف كتب الطب، والمنطق، والطبيعي، والإلهي فإن الذي عربه منها لم يحتج الى إصلاح)
لكن على الرغم من اعتراف بعض مفكري أوربا بتأثير التراث الحضاري الإسلامي في الحضارة الغربية، إلا انه ساد اتجاه منكر و متنكر لهذه الحقيقة التاريخية، وذلك من خلال السعي نحو طمس هذه الحقيقة أو التقليل من شأنها، وقد دعم وأيد هذا الاتجاه حركة الاستعمار الأوربي للعالمين العربي والإسلامي، الذي زاد التأكيد على عجز العرب والمسلمين عن الابتكار والابداع وعن القدرة في الإسهام في ركب الحضارة الإنسانية، الأمر الذي يجعل من التغريب(westernization) والدعوات التغريبية ـ لدى المتأثرين ـ أمراً ضروريا من أجل مواكبة تطورات العصر الحديث.
فتَبجُّح الغرب بأن مرجعيته الفكرية يونانية أو رومانية، وأن النهضة والإصلاح في أوربا وفي العالم الغربي قد انطلقت من خلال الارتباط المرجعي بالتراث اليوناني والروماني؛ ما هو الا أول الكلام، فمن أين جاء اليونان والرومان بمظاهر حضارتهم وكيف طوروها وما أساسها أصلا؟
في الحقيقة الجواب هو الجواب، وكما تقدم من أن الفضل يعود للحضارات البابلية والمصرية وما شاكلها من حضارات الشرق في تطور وتمدن الغرب المتمثل في ذلك الوقت بالحضارتين اليونانية والرومانية.
لقد كان من شأن ترجمة النصوص العربية إلى اللاتينية أن يسهم إسهاما قويا في تطور الرياضيات في القرون الوسطى، إلا أن إسهام هذه الترجمات بعينه هو الذي راح يُطمس باطراد في عصر النهضة، وعندما شرعت أوربا الغربية في ترسيخ فكرة أن اليونان القديمة هي أوربا المبكرة، وعندما زعم (ريجيومونتانوس) سنة 1463م -أي بعد عشر سنوات من سقوط القسطنطينية- ان هناك مخطوطة لديوفانتوس تتضمن علم الجبر، أخفي بكل تأنٍّ إسهام العرب في تطور الرياضيات، وهكذا أمكن لجان بوريل في كتابه (لوجيستا) المنشور في ليون فرنسا سنة 1559م ان يقصي العرب ومدارس العدادين بايجاز واقتضاب، واصفا اياهم بانهم مروّجون جهلة، وان يجزم بأن العناصر الرئيسة للجبر وجدت من قبل الكتاب العاشر لاقليدس.
وهكذا حذف اعتماد الرياضيين الغربيين على البحث العربي والترجمة لصالح التواصل من غير انقطاع مع البدايات اليونانية .

المصادر :
—————–
1. كالغايات التجارية والسياحية والرد على الأديان الأخرى والاستعمار وفرض السيطرة.
2. كاختصاصها بالكهنة والقادة والتجار والملوك والأمراء مثلا.
3. Theodore savory, The Art of Translation, Boston, 1968, p,37))
4. فن الترجمة في ضوء الدراسات المقارنة، صفاء خلوصي: 12.
5. لقد انقسم المفكرون في جوابهم عن مرجعية الفكر الحضاري الى اربعة اتجاهات هي: (الاتجاه الأول) وهو المذهب الإنكاري الذي أنكر إمكانية تحديد مكان وزمان لنشوء الحضارة. (الاتجاه الثاني) القائل بأصالة الغرب القديم المتمثل باليونان وما يشاكلها. (الاتجاه الثالث) القائل بأصالة الشرق المتمثل بحضارات بابل ومصر وما شاكلها. (الاتجاه الرابع) القائل بالتوفيق، معتبرا ان الجميع من شرق وغرب قد ساهم في بناء الفكر والحضارة والمعرفة.
6. الترجمة والعولمة، مايكل كرونين: ص64-65.

 

نشرت في الولاية العدد 77

مقالات ذات صله