حيدر محمد الكعبي
الأئمة الهداة المطهرون(عليهم السلام).. سفن النجاة تقل الناس للخلاص، والنور الإلهي الذي به تستضيء الناس لتصل الى الحقيقة.. وتأمن في شواطئها كل نفس مضطربة وساعية الى الوصول للحق البهي.
والإمام الحسن العسكري(عليه السلام) واحد من اشرعة هذه السفينة المباركة، الذي قاد لواء النور في زمن عصيب ومعقد، شهد ضعف الدولة الاسلامية والارتباك والفوضى التي سادت جميع مفاصل المجتمع.
ولد الامام الحسن بن علي العسكري(عليه السلام) في العاشر من ربيع الثاني عام 232هـ في مدينة رسول الله(صلى الله عليه واله) حيث استقبل بيت الإمام الهادي(عليه السلام) ثاني أبنائه من زوجته الفاضلة الصالحة(حديث) أو (سلسل). رافق أباه الإمام الهادي(عليه السلام) إلى سامرّاء واستوطن معه في منطقة تُسمى بالعسكر، ذلك ان المتوكل العباسي اجبرهم على النزول في بيتٍ تحيط به معسكرات الجيش في سامراء، كي يأمن جانبهم ويراقب تحرّكاتهم، لذلك لقب الإمام الهادي وابنه الحسن بالعسكريين.
حين بلغ الإمام العشرين من عمره توفّي أبوه الإمام الهادي(عليه السلام، فصلّى عليه وقام بدفنه، وتولى شؤون الإمامة من بعده.
نشأة طيبة:
نشأ الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) في حجر والده الإمام الهادي (عليه السلام) ونهل منه العلوم والمعارف التي ورثها من رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فكان كآبائه الكرام علما وعملا وجهادا ودعوة إلى الإصلاح، فتخلق بأخلاقهم القرآنية وتلقى روح الإيمان والإحسان، وكان الانموذج الامثل بالاستقامة.
وقد قام الإمام الحسن العسكري(سلام الله عليه) في عهده بدورين هامين: الاول التأكيد على امر غيبة ولده الامام المنتظر(عليه السلام) وأخذ البيعة له، والامر الثاني يتمثل بترسيخ قواعد واسس المرجعية الدينية لعلماء مدرسة اهل البيت(عليهم السلام).
في زمنه (عليه السلام) أخذ الإمام بأداء مهامه ورسالات الله وتبليغ دين جده رسول الله(صلى الله عليه وآله).. بالرغم من الظروف الصعبة التي عاناها، اذ عاصر(عليه السلام) من الحكام العباسيين المعتز والمهتدي والمعتمد، كان كل واحد منهم يشنّ هجماته العدائية للامام الحسن العسكري(عليه السلام)، كما ان الظروف السياسية كانت متدهورة تماماً ومتناقضة بين عامة الشعب والحكام وخواصهم..
امامته:
كتب الإمام الهادي(عليه السلام) إلى أبي بكر الفهفكي يقول له: أبو محمد ابني أصح آل محمد غريزة وأوثقهم حجة وهو الأكبر من ولدي وهو الخلف وإليه ينتهي عرى الإمامة واحكامها فما كنت سائلي منه فاسأله عنه وعنده ما تحتاج إليه.
كما ان هناك روايات مستفيضة تناقلتها الثقاة من أئمة الحديث عن النبي الأكرم(صلى الله عليه واله) تبين عدد الأئمة الاثنى عشر وأسماءهم وصفاتهم بما لا يدع شكاً عند المؤمنين بان حجة الله البالغة بعد الإمام الهادي كان مولانا الإمام الحسن العسكري(عليه السلام).
وهكذا انتقلت مهام الامامة الإسلامية والخلافة الإلهية إليه بعد وفاة والده الإمام الهادي وله من العمر ثلاثة وعشرون عاماً كما شاء الله تعالى واستمرت امامته بقية أيام المعتز العباسي ثم ملك المهتدي، وخمس سنين من ملك المعتمد.
مكانته العلمية:
أكمل الإمام العسكري(عليه السلام) الخط الذي سار عليه آباؤه(عليهم السلام) في إنشاء الجماعة الصالحة التي تمثل خط ونهج آل البيت عليهم السلام الفكري والعقائدي والأخلاقي والسلوكي بإعداد وتربية مجموعة من الرواة والفقهاء وايد بعض من الكتب التي جمعت في عصره أو قبل عصره، وكان من منتسبي هذه المدرسة أساتذة وطلاب في عهد الإمام الرضا عليه السلام وبلغ عدد أصحابه ورواة حديثه أكثر من مئتي محدث وراوٍ.
وكان من مهام الإمام(عليه السلام) إرجاع العامة من الناس إلى العلماء، ووجه القواعد الشعبية للرجوع إلى الفقهاء والأخذ منهم وتقليدهم وقد روي عنه عليه السلام قوله: (فاما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لامر مولاه فللعوام ان يقلّدوه).
صفاته وكراماته:
كان أحمد بن عبيد الله بن خاقان على الضياع والخراج بقم فجرى في مجلسه يوما ذكر العلوية ومذاهبهم وكان شديد النصب فقال: ما رأيت ولا عرفت بسر من رأى رجلا من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته وبني هاشم وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر وكذلك القواد والوزراء وعامة الناس، فإني كنت يوما قائما على رأس أبي وهو يوم مجلسه للناس إذ دخل عليه حجابه فقالوا: أبو محمد ابن الرضا بالباب، فقال بصوت عال : ائذنوا له، فتعجبت مما سمعت منهم أنهم جسروا يكنون رجلا على أبي بحضرته ولم يكن عنده إلا خليفة أو ولي عهد أو من أمر السلطان أن يكنى، فدخل رجل أسمر، حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن حدث السن له جلالة وهيبة فلما نظر إليه أبي قام يمشي إليه خطى ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقواد، فلما دنا منه عانقه وقبل وجهه وصدره وأخذ بيده وأجلسه على مصلاه الذي كان عليه وجلس إلى جنبه مقبلا عليه بوجهه وجعل يكلمه ويفديه بنفسه…
وعندما سجنه طاغية بني العباس، قال بعض العباسيين للذي وكّل بسجنه واسمه (صالح بن وصيف): ضيّق عليه ولا توسع، فقال صالح: ما أصنع به؟ وقد وكلت به رجلين شرّ من قدرت عليه؛ فقد صارا من العبادة و الصلاة إلى أمر عظيم.. ثم أمر باحضار الموكلين، فقال لهما: ويحكما ما شأنكما في أمر هذا الرجل فقالا له: ما نقول في رجل يصوم نهاره ويقوم ليله كله، ولا يتكلم ولا يتشاغل بغير العبادة فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا، وداخلنا مالا نملكه من أنفسنا.
شهادته:
رحل الإمام العسكري(عليه السلام) ولم يتجاوز عمره السادسة والعشرين، متجرعا الالام والصعاب والمحن منذ عهد المتوكل الذي ناصب أهل بيت الرسالة العداء وهدم قبر أبي عبد الله الحسين(عليه السلام).. وإلى عهد المستعين بالله الذي حبس الإمام.. وإلى عهد المعتز الذي عمد إلى سجنه.. وحتى عهد المهتدي الذي ضايق الإمام واعتقله وأراد قتله وأخيرهم المعتمد الذي اعتقله ودس السم له.. فقد نجح أعوان المعتمد العباسيّ في دسّ السمّ للإمام في طعامه، فوقع صريع المرض من تأثير السمّ، وحين انتشر خبر مرضه أوفد إليه المعتمد مجموعةً من الأطبّاء وأمرهم بأن يلازموا فراشه ليلاً ونهاراً، كما توافد لعيادته لفيف من كبار القوم، وقد أراد المعتمد بموقفه الذي وقفه من الإمام خلال فترة مرضه أن يدفع التّهمة عن نفسه.
كان اليوم الثامن من ربيع الأول عام 260 هجرية يوماً حزينا على الامة الاسلامية حيث جاء نبأ استشهاد الإمام العسكري(عليه السلام).
رحل الإمام ودفن في مقامه الشريف في مدينة سامراء عند قبر والده.. وباستشهاده عطلت الأسواق والناس ما بين عويل وبكاء وقد شبَّه المؤرخون ذلك اليوم الحزين بيوم القيامة، والجماهير المحرومة التي كانت تكتم حبها واحترامها للإمام العظيم خشية بطش النظام.. أطلقت في ذلك اليوم العنان لعواطفها الجياشة.. هكذا ارتحل النور الحادي عشر كمن سبقه من الائمة الهداة عليهم السلام، بعد جهاد طويل في سبيل ترسيخ دعائم الدين ونشر قيم التوحيد، فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا.
نشرت في الولاية العدد 78