
رياض الخزرجي
أخذ مفهوم التنمية البشرية حيزا من اهتمام المجتمعات الغربية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وقد رسمت له أبعاد مختلفة بحسب رؤى وتطلعات من تبنّوا صياغة هذا المفهوم والعمل على تفعيله، ومن ثم النهوض بالمجتمعات في المجالات التي يرونها مهمة.
ومفهوم التنمية البشرية له تعاريف ومعانٍ ربما اختلف الكثيرون في صياغتها، فبعضهم يرى أن التنمية البشرية تقتصر على المجال الاقتصادي، ومنهم من يرى أن مفهوم التنمية يتعدى ذلك الى المجالات الفكرية والثقافية والتعليمية وغيرها.
والإسلام جاء بكل عنفوانه ليضع نهاية للتخلف والدمار الذي كانت تعيشه البشرية، وفتح صفحات جديدة تعطي للإنسان مكانته الحقيقية في معترك الحياة وترسم له الطريق ليأخذ دوره في بناء الحياة.
وبناءً على ذلك، لا بد لنا من إعادة النظر في مفهوم التنمية من المنظور الاسلامي، والتعريف بمجالاتها المختلفة وترتيب سلم أولويات هذا المجال، ولابد لنا من معرفة وبيان التنمية في الدراسات التنموية المعاصرة، ليتبين لناعند المقارنة التمايز والتباين بين الرؤية الاسلامية وغيرها من الرؤى في مجال التنمية البشرية.
مفهوم التنمية:
التنمية من الناحية اللغوية مأخوذة من نما نموّاً، بمعنى الزيادة والمضاعفة في الشيء فيقال: نما المال نموّاً أي زاد وكثر، أما من الناحية الاصطلاحية فقد اختلفت الأقوال تبعاً للاتجاهات والرؤى، وسبب ذلك يعود لاختلاف الآراء حول عملية التنمية من حيث مجالاتها وشموليتها، فبعضهم يقتصر في تعريف التنمية على المجال الاقتصادي لانه يرى أنّ العامل الاقتصادي هو الأهم في بناء الحضارات، وهذا الرأي تبنته العديد من المجتمعات الرأسمالية والأنظمة المادية المعروفة في العالم، وبعضهم الآخر يرى خلاف ذلك، أي ان مفهوم التنمية عندهم مفهوم شمولي يشمل جميع مجالات الحياة.
ومع هذا فإن مصطلح التنمية البشرية عندما يُطلق يتبادر الى أذهان الكثيرين أنّ المقصود منه هو التنمية الاقتصادية، وذلك لأنّ الفكر الغربي هو الذي وضع مؤشرات التنمية في عصرنا هذا من خلال أهدافه الاقتصادية البحتة.
وبسبب خضوع العالم الثالث للهيمنة الغربية، اتجهت المؤسسات الرسمية في العالمين العربي والإسلامي في مجال التنمية البشرية الاتجاه الغربي نفسه، أي التركيز على العامل الاقتصادي وجعله الاساس في حركة التنمية البشرية، ظنا منهم أنّ هذا الاتجاه سيؤدي الى تطور بلدانهم والخروج بها من التخلف الحضاري الذي يعانون منه، ولكن باءت هذه الرؤى بالفشل الذريع.
وسبب فشل هذه الرؤية في العالمين العربي والاسلامي يعود الى أن هذه الرؤية كانت دخيلة لم تنبع من صميم الحضارة العربية والإسلامية، فبعد تصرّم ثلاثة عقود من عمر مشروع التنمية البشرية في الدول النامية، نجد أن هذه الدول ما زالت تراوح في مكانها في معظم المجالات.
مفهوم التنمية من منظور اسلامي:
يمكننا تلخيص التنمية في المنظور الاسلامي من خلال عهد الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لمالك الاشتر إذ جاء فيه: (هذا ما أمر به عبد الله أمير المؤمنين مالك الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها) فنجد هنا أن أمير المؤمنين يضع أربع ركائز لبناء المجتمع الانساني المتكامل، وهي ركيزة الاقتصاد متمثلة في جباية الخراج، وركيزة الدفاع عن الأرض متمثلة في جهاد العدو، وركيزة بناء الانسان من خلال استصلاح أهل البلاد، وركيزة البناء من خلال عمارتها.
من هنا نستطيع أن نلخص خصائص التنمية الاسلامية على النحو الآتي:
1- التطوير والتغيير: فمن أهم أهداف التنمية هو التغيير والتطوير في حياة الإنسان نحو الأفضل، ويكاد لا يخلو أي تعريف للتنمية من معنى التغيير والتطوير في حياة الإنسان.
2- الاستمرارية: تعد عملية التنمية عملية مستمرة، فاستمرارية التنمية مع استمرارية الحياة البشرية والاثنان متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر.
3 -الشمولية: يقصد بالشمولية في التنمية مراعاة قدرات الانسان وإمكاناته المختلفة سواء كانت مادية أم معنوية، فهذه الشمولية بهذا المعنى تعد من أساسيات التنمية الإسلامية، لذا نجد أن نظرة القرآن الكريم للانسان لا تخلو من ثنائية الروح والجسد، فالإنسان وفق هذا المنظور هو روح وجسم، وهناك آيات قرآنية كثيرة تؤكد هذا المعنى منها قوله تعالى: (إن الله اصطفاه عليكم و زاده بسطة في العلم والجسم).
4 – وعي حقيقة الاستخلاف: فقد استخلف الله عز وجل الانسان في الأرض ليعمرها ويبنيها ويحيط بجميع معاني البناء المادية والمعنوية، وأن يكون هذا العامل دافعا معنويا للإنسان في السير نحو البناء والتقدم والرقيّ.
5 – الرعاية: إذ لا يمكن لعملية البناء والتنمية أن تتطور وتستمر مالم يكن هناك دعم ورعاية لها من المؤسسة الدينية والحكومية.
6 – التعاون والتكامل: لا بد من تضافر الجهود من قبل المعنيين بالتنمية والتعاون فيما بينهم من اجل الاهتمام بشروط التنمية والتخطيط لها وتنظيمها وتوفيرها لأفراد المجتمع.
وفي الختام:
من خلال استقراء الواقع التاريخي والتجارب الحديثة في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، وبناءً على ما تقدم نستطيع القول بأن عملية التنمية البشرية بمعناها الشامل لا يمكن أن تحقق أهدافها إلا من الداخل الإسلامي، أي من خلال استقلاليتها بالعملية التنموية، إذ تبقى التبعية للأنظمة التنموية الغربية من أهم أسباب فشل التنمية في المجتمعات العربية والإسلامية، وعلى هذه المجتمعات العودة الى أحضان حضارتها الإسلامية الحقة.
نشرت في الولاية الدد 78