النكرة في القرآن الكريم

قران

أ.د. عائد الحريزي

النكرة لفظة غير معروف المقصود بها أو مجهولة في جانب من جوانبها لأمر مجهول فيها.
فـ(زيد) معروف من هو، و(رجل) نكرة غير معروف سوى جنسه، فلم نعرف أخلاقه، ولا شكله، ولا لونه، هذه هي النكرة كما وصفناها: غموض، وجهل، وإبهام وعموم وعدم معرفة، لها معنى واحد هو التنكير فقط..

 

ولكن كثرة من المفسرين واللغويين والبلاغيين رأوا أن النكرة في كتاب الله وفي غيره لها معانٍ عدة، وفاتهم أن تلك المعاني معانٍ سياقية، أو معجمية، أو صرفية، وليست معانٍ للتنكير، وبضوء هذه الرؤية سنناقش المعاني التي ذكروها وهي:

التعظيم:
استشهدوا له بقول الله: (أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ)(البقرة/5). وأرى ان كلمة (هدى) جاءت نكرة، لأن فيها جوانب غير معروفة، وان بعضها غير معروف كنهه، فالهدى قسمان: هدى دلالة وهدى معونة، وهو بمعناه العام دين الإسلام لقوله تعالى: (إِنَّ الْهُدَى هُدَى الله)(آل عمران/73)، والإسلام ثلاث وسبعون شعبة، والمذكورون في سياق الآية وصفوا بست منها، فهم على هدى، ولكن درجته غير معروفة، لأن شعب الإسلام متفاوتة في قيمتها وأهميتها، وهؤلاء على (هدى) ولكن كميته، رسوخه، ثباته، عمقه، تطبيقاته، امور لا يعرفها الا الله، وهي معروفة ظاهريا عند البشر، فنكرت هدى لذلك، وليس لدلالتها على التعظيم كما قالوا، ولو عملنا لها نسبة (الست) الى (الثلاثة والسبعين) لكانت نسبة قليلة.

التفخيم:
استشهدوا بقوله تعالى: (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)(الشرح/6) فنكرت لفظة (يسرا) لأنهم يعرفون (العسر) الذي هم فيه، ولا يعرفون ان يسرا صاحبه، او يرادفه، ولو عرفوا لجهلوا مقداره ونوعه، وهل يعقل انهم في (عسر) ويصحبه (يسر) فخم وكبير.
إن طبائع الأشياء والبيئة والحالة الاقتصادية والتاريخ كلها تدل على كونه غير مفخم كما قالوا، ولكن ليس على الله بعزيز، انه قادر على كل شيء بكلمة (كن فيكون)، ويبدو انهم لاحظوا التفخيم من كونه وعدا من الله ومن سهولة كلمة يسرا ومن تكرارها في قوله: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (الشرح/5-6) لأن (العسر) واحد، واليسر اثنان، فإذا قلت: اشتريت السيارة، وبعت السيارة، فعندك سيارة واحدة، وإذا قلت، اشتريت سيارة، وبعت سيارة، فأنت تتحدث عن سيارتين، لذلك قال الرسول(صلى الله عليه وآله) عند قراءة الآية: (لا يغلب عسر يسرين).

التنويع:
استشهدوا له بقوله تعالى: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ)(البقرة/19). فنكرت (ظلمات) لأن درجاتها غير معروفة، منها دامسة وأخرى حالكة وثالثة ليلة ليلاء وهكذا، ولم يدل تنكيرها على التنوع، وما لحظوه من تنوع فليس من تنكيرها، وإنما هو متأتٍّ من كونها جمعا، والجمع يضم افرادا متعددة، قد تكون متشابهة أو مختلفة، أو بعضها مؤتلف وبعضها مختلف، ولو كانت معرفة (الظلمات) وكذلك جميع الألفاظ التي ذكروها أما تدل على المعاني التي ينسبوها لها؟

التقليل:
استشهدوا للنكرة بأنها تستخدم للتقليل في قوله تعالى: (وَعَدَ الله الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ)(التوبة/72)، أما لاحظ القائلون بالتقليل لفظة (أكبر) الدالة على الكثرة والتفضيل؟ أما لاحظوا ان (الرضوان من الله) لا من غيره؟
الله سبحانه يقول: (رضوان من الله) اكبر من الجنات والمساكن الطيبة، وهم يقولون إنه دال على التقليل، فالله يقول شيئا وهم يقولون عكسه سامحهم الله.

التخصيص:
استشهدوا عليه بآيتين هما قوله تعالى: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ)(البقرة/96)
فنكرت حياة لأنهم يريدون (حياة) فقط، أما نوعها سعيدة أو تعيسة فهو غير مهم عندهم، بل خارج عن المراد، أي انهم يريدون عيشا من اي نوع كان، فنكرت حياة لذلك للدلالة على العموم والابهام، لتشير الى حياة غير مشروطة، وغير مخصصة كما زعموا.
الكمال:
استشهدوا بقوله تعالى: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا)(الأعراف/126)، فنكرت لفة (صبرا) لأن السحرة في مأزق امام فرعون الغاضب المتوعد، وهم لا يشترطون نوع الصبر، بل يريدون اي صبر وبأي درجة، لتقوى عزيمتهم ويثبت إيمانهم لمواجهة الصلب وتقطيع الأطراف.
والكمال المفهوم من النكرة ليس منها، وإنما من لفظة (أفرغ) الدالة على عدم ابقاء شيء من الإناء، ومن دعاء السحرة الصارخ، وحالتهم النفسية، لأن الداعي المستغيث يريد أكبر عون لتخليصه من الخطر المحيط به.

التفصيل:
استشهد الزمخشري في (الكشاف 2/585) لدلالة النكرة على التفصيل بقوله تعالى: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ)(الأنبياء/104)، والأرجح عندي ان تنكير (خلق) لا تفصيل فيه، لأنه بداية، والبداية علمها عند الله ولا يشاركه فيها أحد، ولكونه مجهولا عند البشر نكر على اصل التنكير في الإبهام.

التبعيض:
استشهدوا لدلالة النكرة على التبعيض بقوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا)(النمل/15) ولكن تنكير (علما) ليس للتبعيض كما قالوا، وإنما لكون نوعه ومقداره مجهولين لا يعلمهما الا الله، فجاءت على الأصل في التنكير.
ولماذا لا تكون للتعظيم والتكثير، لأن عطاء الله لأنبيائه كذلك؟

التحقير:
استشهدوا بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بهم ذُرِّيَّتَهُمْ)(الطور/21)والراجح ان (إيمان) لم ينكّر لكونه حقيرا أو قليلا كما قالوا، ولكنه نكّر ليكون عاما شاملا، ليشار بذلك الى ان الناس يدخلون الجنة بأي ايمان كان بغض النظر عن كميته وكيفيته، فجاءت النكرة في الآية على اصل معنى التنكير ايضا، ويحتمل انه ايمان عظيم لأنه يُدخل المتصفين به في الجنة.

التكثير:
استشهدوا له بقوله تعالى: (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِوَ إِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ)(الزمر/56) فنكرت (نفس) لأن الله لا يقصد بها نفسا معينة و ذاتا بعينها، اي المقصود بها كل نفس فرطت في جنب الله، فجاءت على العموم والإبهام، وهو الأصل في التنكير وفهم التكثير فيها من السياق، لأنه علم شامل له مصاديق في كل زمان ومكان الى قيام الساعة.

 

نشرت في الولاية العدد 81

مقالات ذات صله