مهلا.. امنح نفسك لحظة

43

حيدر محمد الكعبي

الكثير منّا يُحسّون بأن الوقت يسير بسرعة رهيبة مقارنة بالسابق، فاليوم أخذ يضيق علينا شيئا فشيئا، بحيث لم يعد يتّسع لقضاء الأعمال ومتطلبات المنزل وأخذ قسط من الراحة.
طبعا فإنّ الساعة هي المتّهم الأول في الموضوع، فعقاربها الثلاثة لم تعد تمشي بمهل كما كانت في السابق، وربما يظن بعضنا أن ذلك من علامات آخر الزمان.. ولكن هل من الصحيح أنْ نلقي اللوم على الزمن وآلاته؟ لا سيما أن البشر يميلون الى إلقاء اللوم على أي شي… غير أنفسهم.

 

ان لحظة تأمل تكفي لان نعرف ان الوقت هو الوقت.. لا يزيد ولا ينقص، وفي الوقت نفسه فاننا متأكدون جميعا بانه اليوم صار يمر مرّ السحاب، حتى كأن الشهر كالأسبوع والأسبوع كاليوم واليوم كالساعة !
وفي الحقيقة فان المشكلة تكمن في قائمة الاعمال التي نريد ان ننجزها في اليوم، اذ انها صارت طويلة بحيث صار اليوم بالنسبة اليها قصيرا جدا، ونحن لا نفتأ نتّهم الوقت بأنه يأكل اعمارنا بوحشية.
في السابق.. كان المرء يعمل في مهنة واحدة لساعات من النهار، فإذا فرغ من عمله وعاد الى منزله، لم يجد ما يشغله سوى ان يجلس بجوار عائلته، يأكل معهم ويتحدث اليهم، ثم يستريح من اعباء اليوم بنوم هانئ، وهو يحس بمتسع كبير من الوقت لذلك.
أما اليوم، فان المرء ما ان ينهي عمله في مهنة، حتى ينتقل الى اخرى، وربما كانت في انتظاره ثالثة، فإذا بأعماله تستوعب نهاره كله دون ان تُنجز، واذا عاد الى داره وجد بانتظاره قائمة طويلة من المتطلبات المنزلية التي تفرضها الحياة العصرية عليه ان يكملها في اليوم نفسه، هذا إذا لم تلاحقه اتصالات زملائه في العمل بين الفينة والأخرى.
وهذا الحال لم يكن موجودا في ما مضى من الزمان، نظرا لبساطة العيش وقلة الموارد، والاهم من ذلك القناعة والتقنين لممارسات الحياة، حتى ان المرء ليقطع بان الحياة في السابق- على بساطتها – تعد اكثر راحة واوفر وقتا واجمل عاقبة.
وسائل لتوفير الوقت أم لقتله؟
ربما يُقال: ان الحياة باتت تتضمن العديد من الأمور التي تعطي للإنسان فسحة من الوقت، فالسيارات السريعة ووسائل الاتصال الحديثة مثلا توفر وقتا لم يكن يتوفر للانسان قبل خمسين سنة، وعليه فان يوم الإنسان في الماضي لا يمكن ان يكون اطول بالنسبة الى يومه في الحاضر.
والرد على ذلك هو: إن ذلك في بادئ الامر صحيح، ولكن لسوء استغلال الانسان لهذه الوسائل جعلها تصبح بنفسها من الامور التي تستهلك الوقت بدل أن توفره، ففي غالب الاحيان صار الناس يُقدِمون على شراء سيارات – مثلا – من اجل ان يوفروا وقتا لقضاء مزيد من الاعمال والمتطلبات، فضلا عن ان اقتناء السيارة بحد ذاته يحتاج الى بذل جهود مضاعفة لتوفير ثمنها وثمن صيانتها فضلا عن ان إزدحام الطرق التي مُلِئت بالعجلات بات من الأمور التي تقتل الوقت وتبدد اليوم بكل مشاريعه وعلى هذا المنوال فقس باقي الوسائل التي (توفر) الوقت في هذا العصر.

وسائل للراحة أم للشقاء؟
وربما يُقال: ان الحاضر قد وفّر للإنسان من الوسائل ما يجعله اكثر راحة بالنسبة للسابق، فالتلفاز مثلا يجمع العائلة، والطعام متوفر بانواعه، واجهزة اعداده – لتكون لذته مضاعفة – متوفرة، فكيف يمكن لراحة المرء ان تكون افضل مقارنة بالماضي؟
والرد على ذلك هو: ان متطلبات الراحة بذاتها صارت مصدرا للشقاء لسوء استخدامها أيضا، فالادمان على مشاهدة التلفزيون مثلا يجعل الانسان يصرف ساعات طويلة لمتابعة برامجه على مدار الساعة، حتى ان صحة الانسان اخذت تتلف وعلاقته بعائلته تذوي، وبذلك تحول مصدر راحته الى مصدر شقاء له.
وتوفر الاجهزة التي تحافظ على الطعام وتساعد في اعداده جعلت الكثير من الناس يدخلون في دوامة تشكيل الاطعمة والاشربة وما يترتب على ذلك من رفاهية زائدة تحولت الى نقطة اساسية في حياتهم، وذلك يتطلب بذل المزيد من الجهد للحصول على تلك الاجهزة واشباهها، وعلى هذا المنوال فقس باقي الوسائل التي (توفر) الراحة هذه الايام.

امنح نفسك حق التمتع بالنتائج:
إن السباق المحموم الذي يمارسه الناس مع الزمن لانجاز الأعمال وأداء المتطلبات جعلهم ينسون الغاية الحقيقية من كل ذلك: التمتع بنتائج الجهد والعمل. فكل شخص في هذا العصر يبذل جهودا مضنية وسباقا مع الزمن وهو يهدف من وراء ذلك توفير الراحة لنفسه، ولكنه في الحقيقة لم يجنِ ثمار ما عمل من اجله، وألغى الحلقة الاخيرة من نتائج جهده، ووضع محلها جهدا جديدا يأمل ان ينال من ورائه راحة مؤجلة باستمرار.
وشيئا فشيئا، تحول الانسان الى آلة غايتها العمل من اجل العمل، والجهد من اجل الجهد، هدفها تحصيل فسحة زمنية اخرى لأداء عمل جديد.
ولو كان هذا العمل في ما يعمر به حياته الابدية في العالم الاخر لكان ذلك امر مبررا، ولكن كيف اذا كان الجهد مقتصرا على هذه الحياة فحسب؟ هذا مع الاخذ بنظر الاعتبار ما دعا اليه اهل البيت(عليهم السلام) من تقسيم الوقت لاداء اصناف ثلاثة من المهام، ولم يدعوا الى الاقتصار فيه على اداء صنف واحد، فقد روي عن امير المؤمنين(عليه السلام) قوله: «لِلْمُؤْمِنِ ثَلَاثُ سَاعَاتٍ فَسَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ وَسَاعَةٌ يَرُمُّ مَعَاشَهُ وَسَاعَةٌ يُخَلِّي بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ لَذَّتِهَا فِيمَا يَحِلُّ وَ يَجْمُلُ» .
لقد حان الوقت لان يمنح الإنسان نفسه لحظة، يلغي فيها كل انشغالٍ لذهنه، وكل ارتباط لبدنه، لكي يتأمّل في المكتسبات التي نالها من جهده وتعبه، ويستثمر بصورة صحيحة النعم التي نالها لتمنحه الراحة والمتعة، ويشعر بلذة قطف الثمار ويشكر المُنعم عليها حق شكره، وليعلم ان توفر الجهد والوقت يكمنان دائما في تطبيق كلمتين: (القناعة) و(التنظيم).

 

نشرت في الولاية العدد 81

مقالات ذات صله