مفهوم التكليف .. وشرائطه وحسنه ووجوبه

akaed

مرتضى علي الحلي

إنَّ مفهوم التكليف لغةً مأخوذٌ من الكلفة وهي المشقة وهو يعني الأمرَ بما يشقّ (لسان العرب، ابن منظور، مادة كلف)، أما مفهوم التكليف اصطلاحا فهو (إرادة مَنْ يجب طاعته على جهة الابتداء ما فيه مشقة وبشرط الإعلام ويدخلُ تحت واجب الطاعة الله تعالى والنبي(صلى الله عليه وآله) والإمام المعصوم(عليه السلام) والوالدُ والمنعمُ)(كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: العلامة الحلي: ص197) أو هو البعث والتحريك على الشيء والحث بالأمر والنهي الصادر من جهة عليا واجبة الطاعة عقلاً.

وينقسم التكليفُ إلى تكليف اعتقاد وتكليف عمل، والتكليف الاعتقادي ينقسم إلى علم عقلي كالمعرفة بالله تعالى وصفاته وعدله والنبوة والإمامة وغيرها من أصول الدين، وعلم شرعي كالعبادات وإلى ظن كتحديد القبلة، وأما التكليف العملي فهو إما تكليف عقلي كرد الوديعة وشكر المنعم والإنصاف وترك الظلم من الواجبات العقلية وأما تكليف نقلي:سمعي كفعل العبادات الخمس وغيرها مما لايستقل العقل بدركه (اللوامعُ الإلهيَّة في المباحث الكلاميَّة: العلامة السيوري الحلي:ص222:بتصرف)

شرائطُ التكليف
هي إلزامات معيّنة إما أن تعود إلى نفس المُكلِّف وهو الله تعالى في مقام الجعل والتشريع ككونه تعالى عالماً بصفات الأفعال التي يُريدُ تكليف الإنسان بها لأنه إذا لم يكن عالماً بصفة مايُكلِّف به لجاز عليه الأمر بالقبيح والنهي عن الحسن وأن يكون المُشرِّع عالماً بمقدار الثواب الذي يستحقه الإنسان المُمتثل لتكليفه وإلاَّ لأوصلَ بعض الحق والثواب إلى غير مُستحقه فيكون ظلماً
ويجب أن يكون المُشرِّع وهو الله تعالى قادراً على إيصال الثواب لمستحقه وكونه لايخل بالواجب
وأما أن تكون الإلزامات أو الشروط المعينة راجعة إلى نفس الإنسان المُكلَّف وهو الحي البالغُ القادرُ العاقلُ الواصلُ إليه التكليف شرعاً من كونه قادراً على امتثال ما كُلّف به عقلاً وشرعاً
وكونه عالماً بالتكليف حكماً وموضوعاً أو إمكان أن يكون الإنسان المُكلّف عالماً بتكليفه وتمكنه منه فعلاً وإمكان آلة الفعل المُكلّف به نفسه في الواقع الموضوعي والفعلي إن كان الفعل ذا آلة.
وأما أن تكون الشروط والإلزمات المعيّنة راجعة إلى التكليف نفسه كانتفاء المفسدة في نفس التكليف لأنَّ التكليف المشتمل على مفسدة قبيحٌ عقلا أو أن لاتكون مفسدة للمُكلَّف في فعل آخر أو لغيره من المكلَّفين ويشترط في التكليف نفسه تقدمه زماناً على زمان الامتثال والأداء له بمقدار يتمكن فيه الإنسان المُكلَّف من معرفته والعلم به وكون متعلّق التكليف ممكناً في امتثاله ومقدوراً عليه كماهيَّة الصلاة الواجبة وغيرها من العبادات مثلاً ذلك لأنَّ التكليف فرعُ الإمكان والقدرة والعلم وأن يكون التكليف مُشتملاً على صفة حسنة زائدة عليه بمعنى يجب أن يكون في التكليف جنبة مشقة ما حتى يُحقق معناه ومفهومه وإلاَّ فهناك أفعال يمتثلها الإنسان المُكلّف وهي مباحة ولا مشقة فيها كالأكل والشرب والمنام(اللوامع الإلهيَّة في المباحث الكلامية:العلامة المقداد السيوري الحلي:ص222/223:بتصرف).

حُسن التكليف ووجوبه
من المعلوم في مباحث الحكمة أنَّ التكليف لو لم يكن واجباً عقلاً على الله تعالى لكان سبحانه -حاشاه- مُغرياً للإنسان في هذه الحياة الدنيا بالقبيح حيثُ خلق الشهوات في نفس الإنسان، وإمكان الميل إلى القبيح والنفور عن الحسن فلابدَّ من زاجر لتلك الأمور وهو التكليف( انظر:شرح الباب الحادي عشر:المقداد السيوري الحلي :ص84:بتصرف)
إنَّ الإنسان المُكلّف وإن كان ذا عقلٍ وإدراك إلاَّ أن هذا غير كافٍ في تعاطيه مع أشيائه الحياتية دون أن يكون للتكليف الإلهي أثر عليه إذ مقتضى حكمة الله تعالى وإرادته هو أن تصدر أفعال الخير من المُكلّفين في هذه الحياة الدنيا وهذا يتحقق بفعل حكمة وغرض التكليف نفسه وقد تقدّمَ أنَّ أفعال الله تعالى كلها حسنة ولها أغراض حكيمة ومُنتجة تعود إلى نفس الإنسان أو نظام الوجود وذكرنا أنه تعالى لايفعل القبيح ولايُريده أصلاً لذا يثبت أنَّ في تكليف الإنسان جهات حسنة وهادفة وفيها مصالح فعلية وأهمها تعريض الإنسان المُكلّف للثواب والثواب لايُنال إلاَّ بامتثال التكاليف المعينة وكذلك تحذيره من العقاب الأخروي والذي يوجب تكليفه من أول الأمر حتى يكون على دراية بذلك ولأنَّ إثابة من لايستحق قبيحة عقلا وشرعاً ومعاقبة مَنْ لم ينذر قبيحة أيضا فيكون التكليف أمراً حسنا وواجباً عقلاً وحكمةً وقد ذكر العلامة الحلي(رحمه الله تعالى) وجهاً فلسفيا رائعاً في بيان حكمة وحسن التكليف وقال مانصه: إنَّ الله تعالى خلق الإنسان مدنيا بالطبع لا كغيره من الحيوانات (ولا يمكن وتبقى أشخاص الإنسان ولم يحصل لهم كمالاتهم إلاّ بالتعاضد والتعاون لأنَّ الأغذية والملبوسات أمورٌ صناعية يحتاج كلٌ منهم إلى صاحبه في عملٍ يستعينه عن عمله له حتى يتم كمال ما يحتاج إليه واجتماعهم مع تباين شهواتهم وتغاير أمزجتهم واختلاف قواهم المُقتَضية للأفعال الصادرة منهم هي مظنّة التنازع والفساد ووقوع الفتن فوجب عقلاً وضع قانون وسنّة عادلة يتعادلون بها فيما بينهم
ثمَّ تلك السنَّة لو استند وضعها إليهم لَزِمَ المحذور فوجب عقلاً استنادها إلى شخص مُتميِّز عنهم بكمال قواه واستحقاقه للانقياد إليه والطاعة له وهو الله تعالى وذلك إنما يكون بمعجزات تدلُ على أنها من عند الله تعالى ثمَّ من المعلوم تفاوت أشخاص الناس في قبول الخير والشر والرذائل والنقصان والفضائل بحسب اختلاف أمزجتهم وهيئات نفوسهم فوجب أن يكون هذا الشارع(الله تعالى) مؤيِّداً لايعجز عن إحكام شريعته في جمهور الناس بعضهم بالبرهان وبعضهم بالوعظ وبعضهم بتأليف القلب وبعضهم بالزجر والقتال.
ولما كان النبي لايتفق في كل زمان إشارة منه إلى حتميّة ختم النبوة المحمدية وجوب فتح الإمامة المجعولة إلهيا نصبا ونصا وجب أن تبقى السنن المشروعة إلى وقت اضمحلالها واقتضاء الحكمة الإلهية تجديد غيرها ففُرِضَتْ عليهم العبادات المُذكّرة بصاحب الشرع وكُررتْ عليهم حتى يستحكم التذكر بالتكرير فيحصل لهم من تلقي الآوامر والنواهي الإلهيّة

منافع ثلاث
للتكليف منافع جمة نذكر منها على نحو الاختصار ثلاث:
1: رياضة النفس الإنسانية بإعتبار الإمساك عن الشهوات ومنعها عن القوة الغضبية المُكدِّرَة لصفاء القوة العقلية .
2: تعويد النفس النظرَ في الأمور الإلهيّة والمطالب العالية وأحوال المعاد والتفكر في ملكوت الله تعالى وكيفية صفاته وأسمائه وتحقق فيضان الموجودات عنه سبحانه مُتسلسلة في الترتيب الذي اقتضته الحكمة الإلهية بالبراهين القطعية الخالصة عن شبهات المغالطة.
3: تذكرهم ما وعدهم الشارع من الخير والشر الأخرويين بحيث ينحفظ النظام المقتضي للتعادل والترافد ثم زادَ الله تعالى لمستعملي الشرايع الأجرَ والثواب فهذه مصالح التكليف عند الأوايل و الأخرة) (كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد:العلامة الحلي:ص198/199).

في الختام:
إذاً طبقاً لما تقدّم من حسن ووجوب التكليف الإلهي للإنسان وبيان شرائطه وأغراضه يكون الإنسان المُكلّف مُلزماً أمام الله تعالى الواجب الطاعة عقلاً لاشتغال ذمته يقيناً بوجوب طاعة الله تعالى وذلك يستدعي الفراغ اليقيني مما اشتغلتْ ذمته به عقلا ويضعه في جانب المسؤولية والمُنجزية أمام الحق سبحانه وبالنتيجة يكون الخيار العقلاني والشرعي مُنحصراً بلزوم امتثال ما علمه الإنسان من تكاليف وصلتْ إليه بحكم العقيدة والشريعة الإسلامية الحقة.

نشرت في الولاية العدد 84

مقالات ذات صله