الصحافة وتأثيرها النفسي

الصحافة-النجفية

عبد الغني شوقي

ظهرت بواكير الصحافة في النجف الاشرف منذ سنة 1910م، وبالرغم من قلة الموارد وحداثة التجربة آنذاك، الا انها حققت قفزات نوعية نافست التجارب الصحفية على المستوى الإقليمي، إذ واكبت الأحداث العالمية أدبا وسياسة وثقافة، وبلورت الهموم والآمال التي يحملها المفكرون تجاه الأمة.
وفي هذا الباب تقدم لكم (الولاية) سلسلة مختارة من المقالات المنشورة في مجلات النجف القديمة إحياءً لهذا الإرث الإعلامي الخالد، ووقوفاً على معالم من تفوّقه الذي عجز كثيرون في هذا الزمان عن مجاراته.

اصحبت الصحافة في الوقت الحاضر احدى القوات التي يُؤبه بها، ويخشى تأثيرها في قيادة الرأي العام، والتسلط على نفسية الشعوب، ويكفينا ان ندقق قليلا فيما هي عليه، من السرعة والانتشار وتعدد وسائل الاذاعة، لنطلع على ما حازته من عظيم النفوذ، والسيطرة على الآراء والأخذ بزمام العواطف.
وبالنظر لما لها من جليل الشان فقد اصبح كبار السياسيين والقادة يحسبون لها حسابا ويفرقون من سطوتها، وكثيرا ما نراهم يسعون في سبيل اكتساب رضاها للاستعانة بها في تذليل العقبات واجتذاب الانصار واسترضاء الاحزاب.
وليس بين الملوك المستبدين كنابوليون وعبد الحميد من كم افواه الصحافيين وضيق الخناق عليهم استصغارا لشأن الصحافة واحتقارا لمهنتها، وإنما ادركوا أن الصحافة تناوئ استبدادهم وتفشي اسرار مظالمهم وتذيع عيوبهم فقللوا من الصحف واضطهدوا اصحابها وشددوا عليهم المراقبة وسلبوهم حرية النشر التي هي اهم واجباتهم.
ومما لا مرية فيه ان قيادة الصحافة للمجتمع البشري ناشئة من عوامل نفسية محضة قادرة على خلب الألباب والتأثير في العواطف.
ومن الجدير بنا اليوم ان نسلك طريق البحث النفسي لإيضاح هذه العوامل التي اوصلت الصحافة الى شاؤها الرفيع.
ومن السنن المقررة في علم النفس ان الناس لا يؤمنون بما ذاع بينهم من الآراء لمقاربتها للحقيقة، او لمطابقتها للمعقول، وانما ترسخ هذه الآراء في النفوس وتحسب من جملة القضايا المسلم بصحتها بواسطة عوامل نفسية لا تفسح للمرء مجالا لتمحيص ما آمن به واظهار ما فيه من خلل او وهن، واهم هذه العوامل النفسية هي: العدوى الفكرية والتوكيد والتكرار.

1. العدوى الفكرية:
اما العدوى الفكرية فهي امر نفسي يساعد على انتشار الرأي بين الجمهور انتشارا تقليديا بلا تدقيق ولا تحقيق فيؤمنون به ايمانا (لا شعوريا) أي لا دخل فيه للتعقل والارادة ولا يحتاج في تأييده الى برهان او بينة.
ولما كانت الصحافة اكثر وسائل النشر ذيوعا، فقد اصبحت اداة صالحة لانتقال العدوة الفكرية وشدة سريانها، ولو التفتنا الى اكثر حوادث الاجرام لرأينا ان ما تنشره الصحف من اخبارها من اشد موجبات وقوعها، لأنها من جهة المشاعر التي يسهل انتقالها من شعب لآخر او من جماعة لأخرى.
وكثيرا ما ادى نشر الصحف لإحدى الحوادث المهيجة للعواطف كالاغتصاب والانتحار الى وقوع نظير لها في اماكن اخرى.
وما كان امر العدوى منكورا في الماضي الا انها قد وصلت في زماننا هذا الى درجة لا مثيل لها في العصور السابقة وما ذلك الا بواسطة الصحف التي اصبحت من اعظم وسائل سريانها.

2. التوكيد:
وأما التوكيد فهو ابداء الراي بصيغة توكيدية حماسية وجيزة، غير انها خالية من البرهان الذي يفضي الى النزاع والجدل في امر الرأي المؤكد.
ولما كان التوكيد احد وسائل الاقناع فان شان الصحافة فيه لا يقل عن شان العدوى الفكرية وقد انتبه عظماء الساسة الى ذلك فاستغلوا هذه القوة واستخدموها في توطيد نفوذهم واذاعة الآراء والمذاهب السياسية التي يتوقف عليها نجاهم.

3. التكرار:
غير ان الرأي او المذهب المؤكد لا يرسخ في الاذهان ما لم يكرر تكرارا كافيا لتسربه الى عقول الملأ اللاشعورية او (الباطنة) ومن هنا يتجلى لنا سر مقدرة الصحافة على بث الآراء والمذاهب لأنه لا يسهل إحداث التكرار القوي المتتابع الا بواسطة الصحف التي تكون بقية وسائل النشر والاذاعة كالكتب والروايات والرسائل وغيرها قاصرة على مجاراتها في هذا المضمار.

الخلاصة:
وخلاصة القول ان الصحافة قد تغلغلت في الزمن الحاضر في صميم الحياة السياسية والاجتماعية والدينية فلا ينتشر رأي او معتقد ولا يفلح حزب سياسي او ثوري الا بمعاضدة الصحافة ورعايتها، ولا يتقوض نظام سياسي او اجتماعي ولا يخفق مشروع اصلاحي او اقتصادي الا بمناوأة الصحافة له.

نشرت في الولاية العد 84

مقالات ذات صله