الموروث الثقافي والحداثة

DSC07011

شاكر القزويني

هناك أسباب لاهتمام الشعراء المعاصرين بالتراث الشعبي وطرائق توظيفه والتناص او الاتّكاء عليه في رسم صورة شعرية أو توظيف مغزى ما توحي به خيالات الشاعر وتحليقاته الحسية، وان الذي اكتسبه النص الشعري من خلال استعانته بالفلكلوري والأسطوري والشعبي كان سمة نتاج مرحلة إبداعية تجديدية فيها خروج عن المألوف الكلاسيكي له مبرراته الحتمية، فلا يخلو ديوان شاعر من شعراء التجديد والحداثة من الإشارات الفلكلورية والرموز الأسطورية فضلا عن الأشكال والأمثال الشعبية القديمة أو الحديثة للتعبير عن مضامين جديدة وتجارب معاصرة. 

ولا يخفى على متابع ان بعض الأساليب الفنية في استخدام هذا التراث التي من شأنها توظيف هذا التراث الفني الشكلاني والموضوعي وقعت في التكرار والتكريس غير المبرر مما يفقدها طابعها وغرضها الابداعي فضلا عن العجز الفني الذي قد ينال بعض الشعراء حينما يعجزون عن توضيح معالم غرضهم الفني في نقل ذلك التراث من خلال النص الأدبي، بل قد يتعدى الأمر الى التوظيف الخاطئ الناجم عن عدم الإحاطة بفهم الموروث اسطورة أو شكلا شعبيا تراثيا أو موضوعا فولكلوريا ما، مما يؤدي حتما الى بناء نص مرتبك غير مفهوم أو متناقض في معطياته الموضوعية والحسية المراد إيصالها للمتلقي، وان بعض التباين والتضاد بين القديم والجديد قد يوقع النص أحيانا في فخ التناقض وعدم الاتزان في الرؤية داخل النص فيكون ذلك التوظيف بمثابة خسارة في غير مصلحة النص.
الحاجة أم الاختراع
ظهرت التيارات الفكرية والمذاهب الأدبية على تعدد مرجعياتها ومشاربها الفكرية والفنية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ وبهذا الاختلاف في المرجعيات الفكرية والفنية والأدبية تعددت الأشكال والأنساق والآليات الأدبية والفنية منتجة أسسا وأشكالا شعرية معاصرة ملبية لهذه الحاجة المستجدة في التعبير عن الحس الواقعي المعاصر وأزماته وطموحاته وأحلامه و انكساراته التي تعد اغترابا غير مألوف عند الكلاسيكي الفخور والفحل المتعالي رجولة وبأسا والذي بات لا يقوى في أشكاله التقليدية هذه على تلبية هذا الواقع وحاجاته المعاصرة من محاصرة وانكسار للإنسان في عالمه المتصدع الواهن، مما دفع بعض الشعراء إلى استحداث أشكال شعرية جديدة لا تتفق مع الشكل والنسق الشعري التقليدي عند الشاعر الجاهلي.
التمرد على التقليدي الصارم
ففرضت تلك المتغيرات والمؤثرات الجديدة شروطا مختلفة على الشاعر مما دفعته الى مراجعة أسس الإبداع في نتاجه الأدبي فضلا عن وسائله الفنية التي تقولب عليها قروناً طويلة خلت، فتغيير موقفه من السير على خطى الغابرين في طريق رسم له وما عليه سوى الإذعان والقبول هو ومن سيأتي بعده الى متمرد على ذلك التراث بعد ان ثقل عليه حتى أصبح قيدا يشل حركته في التحليق والتعبير والرفض.
إلا ان هذا الرفض والتغير في الأسلوب كان متفاوتا من شاعر لآخر ومن مجموعة لأخرى بل ان بعض الشعراء المحدثين شهدت مسيرته الإبداعية تفاوتا وتغيرا كبيرا بالموقف إزاء التقليدي كما حدث مع الشاعرة رائدة الشعر الحر( نازك الملائكة )، ومما لا يخفى على أحد ما للغرب من تأثير كبير في هذا التمرد لسابق عهده بالتجديد والحداثة بالأسلوب استطاع ان يجد من المؤيدين والتابعين الكثير سيما عند أولئك الذين أسهموا في نقل وترجمة النصوص والبحوث الأدبية التي قادت الحداثة في أوربا منذ مطلع القرن السابع عشر على يد ( بودلير). حتى ان هناك من بالغ في تبني هذه التغيرات معرضاً نفسه إلى مخاطر التبعية والتغريب سلبا على الأدب والثقافة، متخلياً بذلك عن شخصيته العربية والإسلامية ماسخا وجهه الحضاري الى وجه لا هوية له ولا نسب إلا ان هناك من استطاع ان يشق طريقا معبدا للشعر يضع فيه موروثه الحضاري في بعده الإنساني والفكري والقيمي مقترنا بمتطلبات العصر ومشروعه الحداثوي .
صيحات التجديد وعودة الإنسان الى نفسه
ومن جملة الآراء التي تناولت العلاقة بين الشعر والأسطورة عند الشعراء المعاصرين لا سيما الغربيين منهم الذين عاشوا أزمة الحضارة الغربية المادية، الشاعر (ت . س. اليوت) الذي يعلن في ديوانه (الأرض اليباب) ان العودة للتراث والارتماء بطقوسه ومعتقداته هو الخلاص من اليباب والهباء الذي يلف الحياة، فيكون الرجوع الى البساطة والطيبة والعلاقات الإنسانية وممارساتها المنطلقة من تلقائية بعيدة عن الحسابات المادية المعقدة كالغرائز والرغبات التي ولد معها الإنسان .
ولا يفوتنا ذكر رواد حركة التجديد منطلقة من بدر شاكر السياب، وصلاح عبد الصبور، ونازك الملائكة ، وخليل حاوي ، ومحمد مندور وغيرهم من رواد الشعر المعاصر لما لهم من وضوح أثر في استخدام الأسطورة ومتانة في القدرة على التوظيف والتعبير فضلا عن سبق هضم المتغيرات الشعرية نسقا وفنا عند الحداثويين الغربيين وتطويع التقليدي مقترنا بهذه التجربة المعاصرة مما يعد عند بعض الأدباء والمثقفين ولا سيما الشعراء منهم فتحا أدبيا وشعريا وملمحا عصريا لهذا الشكل الأدبي المهم .
ان تردي الشعر وانكفاءه على الشكلية والتكرار بما يشبه القولبة والجمود ماذا جعل المدرسة الكلاسيكية التي بدأت قوية معافاة بتجديد التقليدي واحياء تراثه الثر الغزير، مع أن الكلاسيكين حققوا ما كانوا يصبون اليه من خلال الكم الهائل من النتاج الإبداعي المتين شعرا ونثرا، إلا ان خطر الصرامة في القواعد والانغلاق على القوالب الجاهزة دفع الى الرغبة الجادة في التمرد على قيودها وقواعدها الموروثة للانطلاق نحو آفاق إبداعية جديدة. وكان أول الغيث تعالي اصوات من يريد إصلاح الحياة وإعادتها الى بساطتها وطيبتها وغرائزها الواضحة من دون رتوش وتصنّع للحصول على السعادة الحقيقية من دون عقد وعقبات ليس لها داع وذلك في القرن السابع عشر في أوربا، وقد تقدم هذه الدعوة المفكر جان جاك روسو، واستمرت تلك الدعوات فكريا وأدبيا وشعريا حتى القرن التاسع عشر، الذي أعلن عن تشكيل الكثير من الظواهر الأدبية المخالفة للكلاسيك، الداعية للتحرر منه ومن أساليبه وأشكاله، والمبشرة بتفوق الخيال على العقل والتحليق من أرض الواقع الى الحلم، في رحلة انعتاق عبر الزمان والمكان ذهابا وإيابا، حاملة مشعل الدين والأسطورة والتراث ،راكبة زورق الطبيعة من دون مرساة يبحر بها الغموض والدهشة والفنتازيا الى أرض غير هذه الأرض وسماء غير هذه السماء.
المدرسة الرومانسية في عباءة الموروث
وكانت المدرسة الرومانسية منضوية تحت عباءة الفلكلور والفن الشعبي كثيمة أساسية لتحقيق هدف وحدة الأمة الممزقة و بناء حلم الشخصية العربية والإسلامية والأمة التي تبحث عن أوصالها وأبنائها وأمانيها ومستقبلها، رافعة رايات الثورة بوجه الاستعمار والاستبداد والتخلف، فصاغت أغانيها الشعبية، وحكاياتها، وموروثها، بل حتى نكاتها الساخرة بلا مخاتلة وبقصدية سافرة منتجة فنا وإبداعا أدبيا معجوناً بالوجدان والحلم وان أحاطته المآسي، نعم ان الرومانسية أسهمت بشكل كبير في تحرير الشعر من تقليديته وقيودها الصارمة ومنحته رحما من موروثه الشعبي لولادة أنساق فنية جديدة، إلا ان اسهامات العلماء الذين اهتموا بالثقافات القديمة كالأنثروبولوجية وعلم النفس والفولكلور كان لها الفضل في صنع أجنحة للشعراء والأدباء ليحلقوا في أفق الإبداع الرحب.

نشرت في الولاية العدد 84

مقالات ذات صله