أ. م. د. عبد الكريم النفّاخ
لازم الشعر قضايا الأمة فلم يكن يوما ما منفصلا عن قضاياها، وبما أن الشاعر هو المثقف الأول في المجتمع فتقع على كاهله معالجة قضايا مجتمعه على الصعيد الموضوعي والفني، فالشعر يعكس صورة المجتمع ويحاول أن يغيره سلبا أو إيجابا، وبتعبير آخر الفن ليس تعبيرا انفعاليا غايته تحقيق اللذة والمتعة فحسب، إنما تتعدى مهمته الى تحقيق المنفعة والتأثير في سلوك المتلقي، فهو فاعل يؤثر ويتأثر.
فالشاعر المبدع يعالج حياة المجتمع وإلا ضعفت الاستجابة بينه وبين المتلقي، ولهذا فان أغلب الشعراء ارتبطوا بمجتمعاتهم ووقفوا على معاناتهم وحملوا قضاياهم، فسخّروا شعرهم لنقد الواقع واستشراف المستقبل.
نلحظ ان بعض الشعراء الذين آمنوا برسالة السماء ينهضون بحمل تلك الرسالة والدفاع عنها، إذ واكب الشعر الرسالة المحمدية منذ بزوغها، فكان السلاح الفعال للذود عنها، واللسان المعبر عن فكرها وأهدافها، بل هو المنبر الإعلامي الذي يسجل الحوادث والأيام.
وقد عدّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الشعر سلاحا في المعركة وشجّع شعراء المسلمين على أن يهاجموا الخصوم من خلال القصيدة الشعرية، مما يؤكد منزلة الشعر الرفيعة وأنه لم يكن بمعزل عن قضايا الأمة.
وتأتي واقعة الغدير في هذا السياق، فقد التزم بها طائفة من الشعراء، لكونها من أهم الوقائع في تاريخ الأمة لخطورتها وحساسيتها من جهة، ولارتباطها بالفكر العقائدي والتشريعي والعاطفي من جهة أخرى، لأن الله سبحانه وتعالى أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينصب عليّا عليه السلام إماما وخليفة للمسلمين، إذ له الولاية والطاعة والأمر، وكان اول من انشد شعرا في هذه الواقعة الشاعر حسّان بن ثابت قائلا:
يناديهم يوم الغدير نبيهم بخم وأسمع بالرسول مناديا
يقول فمن مولاكم ووليكم فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
الهمك مولانا وانت ولينا ولا تجدن منا لامرك عاصيا
فقال له قم يا علي فانني رضيتك من بعدي اماما وهاديا
الاستلهام من الواقعة العظيمة
وقد استلهم الشعراء هذه الواقعة وغدت غرضا لقصائدهم، لأن الغرض هو نواة وفكرة القصيدة، بل هو التجربة الشعرية والغرض الرئيس الذي تتفرع منه موضوعات القصيدة وعناصرها، لهذا أصبح الباعث الأساس لولادة القصيدة الغديرية، لذا أكد بعض الشعراء على أهم القضايا التي لها علاقة بحادثة الغدير، فقد أشاروا الى تنصيب الإمام وزيرا وخليفة وأميرا بعد الرسول، وسوف نقف على شعر بعض أولائك الشعراء لضيق المقام، فقد قال السيد الحميري:
لقد سمعوا مقالته بخم غداة يضمّهم وهو الغدير
فإنّ وليّكم بعدي عليّ ومولا كم هو الهادي الوزير
وزيري في الحياة وعند موتي ومن بعدي الخليفة والأمير
ونرى أبا تمام يعدد مناقب الإمام علي عليه السلام مستثمرا واقعة الغدير، إذ يقول:
ويوم الغدير استوضح الحقّ أهله بفيحاء لا فيها حجاب ولا ستــر
أقام رسول الله يـــدعـــوهــم بــها ليقربهــم عــرف وينآهم نـكــر
يـمـد بـضبعــيه ويـعـــلــم أنّـــــه وليّ ومــولاكـم فهل لكم خبــــر
يـــروح ويغـــــدو بالبيان لمعـشر يروح بهم غمر ويغدو بهم غمر
فــكـــان لهـــم جهــر بإثبات حقّه وكان لهــم في بـرّهم حقه جهــر
ونلحظ الشاعر علاء الدين الحلي يؤكد على ولاية الإمام منطلقا من واقعة الغدير ومعبرا على لسان النبي، إذ يقول:
ويقول والأملاك محدقة به والله مطّــلـــع بذلك يشهـد
من كنت مولاه فهذا حــيدر مولاه من دون الأنام وسيّد
ياربّ وال وليّه واكبت معا ديه وعاند من لحيدر يعند
والله ما يهواه إلا مــؤمـن برّ ولا يــقــلــوه إلاّ ملحـد
وقد وظف الشعراء الحجج والبراهين والأدلة العقلية والنقلية في إثبات واقعة الغدير وأحقية الإمام علي عليه السلام في الولاية والوصاية والخلافة، يقول السيد الحميري:
أعلماني أيّ برهان جـلي فــتــقــولان بـتـفـضيل علي
بعدما قام خطيبا معــلـنــا يـوم خـم باجتماع المـحـفــل
أحمد الخير ونادى جاهرا بــمــقــال مــنه لـم يــفتعـــل
قال إنّ الله قــد خـبّـرني في معاريض الكتاب المنزل
أنّــه أكــمـل ديــنا قيــّما بــعــليّ بعـــد أن لــم يــكمـل
هو مـولاكــم فـويل للذي يــتولّى غير مــولاه الــــولي
وهذا مهيار الديلمي يرد عل أحد سائليه حول وراثة الإمام للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) مستثمرا الاستفهام في حججه، إذ يقول:
وقائل لي عــــلي كـــــان وارثه بالنص فهل أعطوه أو منعوا ؟
فقلت كانت هنات لست أذكـرها يجزي بها الله أقواما بما صنعوا
واسألهم يوم خم بعدما عقدوا له الولاية لمْ خانوا ولمْ خلعوا
وخلاصة القول: إنّ بعض الشعراء قد استثمروا واقعة الغدير بتسلسل منطقي فيعرضون لفكرة الغدير معبرين عن ذلك بأساليب فنية رائعة من جهة، ومناقشين فكرة الخلافة والوصاية والولاية على أساس الفكر والأقيسة العقلية في حق عليّ (عليه السلام) في ميراث الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).
نشرت في الولاية العدد 85