إشكالية السجود ليوسف عليه السلام في النص القرآني قراءة من منظور الإمام الهادي عليه السلام

220117

أ.م.د. سيروان عبد الزهرة الجنابي

إذا كان السجودُ والخضوعُ لا يجوزُ إلا للخالقِ الأوحدِ سبحانه؛ فكيفَ يمكنُ أنْ يصدرَ السجود من إنسانٍ ما إلى إنسانٍ مَخلوقٍ آخر، فقد يخالُ المتلقي فِهْماً من قوله تعالى ((وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً))(سورة يوسف: 100)، أنَّ يعقوبَ وأبناءَهُ -إخوة يوسف- قد خرّوا سجداً ليوسف(عليه السلام) تعظيماً له(ينظر: المفيد: الاختصاص:92)، وطلباً للمسامحة على فعل إخوته به(ينظر: الشوكاني: فتح القدير: 3/80).

السجود طاعة لله
غير أنَّ الإمامَ الهادي (عليه السلام) قد وجَّه النصَّ الكريمَ على غير هذا المعتقد التفسيري؛ إذ قال: ((وأما سجود يعقوب وولده؛ كان طاعةً للهِ ومحبةً ليوسف، كما أنَّ السجودَ من الملائكة لآدم لم يكن لآدم، وإنما كان ذلك طاعةً للهِ ومحبةً منهم لآدم، فسَجَدَ يعقوبُ (عليه السلام) وَوِلْدُهُ ويوسفُ معهم شكراً لله؛ باجتماع شملهم، ألم تَرَهُ يقول في شكره ذلك الوقت: «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحين» (سورةيوسف: 101))؛ بهذا نجد أنَّ الإمام ينفي إمكان السجود لغير الله سبحانه؛ لأنَّه من المحال أنْ يحدثَ هذا فالخضوعُ للخالقِ وحدَهُ؛ من هنا وجَّه الإمامُ المرادَ من السجود في الآية الكريمة التوجيه الصحيح من أنَّه كان شُكراً لله سبحانه حتّى أنَّ يوسفَ قد سجدَ معهم، واستدلَ الإمامُ على سجود يوسف معهم شُكراً بقول يوسف نفسه داعياً لله «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ»؛ وتأسيساً على هذا الاستدلال نجد أنَّ الإمامَ ما زال يوظِّفُ منهجَ الاستنادِ إلى قرينة الوحدة السياقية في نقد الفهم التفسيري للمتلقي؛ إذ أتمَّ النصَّ فانتزع دليلاً على أنَّ السجودَ كان للهِ سبحانه، وبمقولته بأنَّ يوسف كان ساجداً معهم حُسِم الموقف تماماً؛ ذلك بأنَّ السجودَ إذا كان إلى يوسف نفسه فكيفَ يسجدُ يوسفُ لنفسِهِ؛ فهذا محالٌ عقلاً.

السجود لرب الملك
والدليلُ على سجود يوسف هي مقولة الدُّعاء التي صدَّرها بلفظ (رَبِّ) في قوله (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) فكأنَّ يوسفَ (عليه السلام) ابتداءً باستعماله لفظة (رَبِّ) ينفي إمكانية الظن بأنَّه يمكن السجود لغير الله سبحانه، لأنَّه يعترفُ صراحةً بأنَّ اللهَ ربُّهُ ولا يجوزُ السجودُ لغيرِ اللهِ مُطلقاً، بل إنَّ يوسفَ في دعائه يحاولُ بيان مديات فضل الله عليه، وذلك بقوله (قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ)؛ إذ أحالَ هذا الملكية بأسرِها إلى الله سبحانه، ووَثَّقَ ذلك تأكيداً باستعماله (قد) التحقيقية التي تفيدُ ترسيخ معنى الفعل الماضي إذا ما سَبقتْهُ في الكلامِ، فكأنَّه ـ والحال هذه- أكَّدَ أنَّ هذا الملك ليس له؛ بل هو لله، وأنَّ الله سبحانه قد آتاهُ إياه، فكأنَه بهذا يعززُ شكرَهُم للهِ وسجودَهُ إليه سبحانه باعترافه بأنَّ كلَّ ما هو فيه من نعمةٍ إنما هو من الله الذي سَجَدْتُم له الآن، ولو كنتُم يا إخوتي قد أطعتموه لجزاكم خيراً؛ فكان في الدعاءِ شكرٌ للهِ وتأنيبٌ لإخوتِهِ في الوقتِ نفسِهِ، ومن اللطيف في صياغة جملة الدعاء ليوسف أنَّه أوكلَ كلَّ ما لديه إلى الله سبحانه وأنَّ ما عند الله أعظم وأجلُّ من الملك وذلك بحيثية استعماله (الـ) الجنسية التي تفيدُ العمومَ الشموليَّ بلفظة (الْمُلْك) في قوله (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) وتقديمه للحرف (من) الذي يفيد التبعيض على لفظة (الْمُلْك) أيضاً؛ إذ اتصال (الـ) بلفظة (ملك) دلَّتْ على أنَّ عموم الملك هو لله ومِنَ الله سبحانه دون غيره، فهو المالك الأوحد والمتفضل الأوحد، وأنَّ وجود (من) التبعيضية لدليل لراسخ بما لا يقبلُ الشكَّ على أنَّ الملكَ الذي هو بيد يوسف إنما هو بعض من ملك الله العظيم؛ من هنا حقَّ السجودُ للهِ لا ليوسف؛ ولهذا سَجَدَ يوسفُ للهِ بعد أنْ سَجَدَ أبوه وإخوته شكراً لله على بقاء يوسف حياً وعلى ما وصلَ إليه من مكانة في الدنيا؛ بهذا يثبتُ أنَّ السجودَ كان لله سبحانه وليس ليوسف؛ لأنَّ يوسفَ قد سَجَدَ معهم شاكراً الله سبحانه.

سجود النبي يعقوب
وإذا ما جرى التَّسامحُ مع مقولة من يرى سجودَ إخوةِ يوسف ليوسف؛ فكيف يمتدُّ هذا التسامح ليشملَ قبولَ سجودِ يعقوب ليوسف؛ ذلك بأنَّ يعقوبَ هو أبو يوسف ابتداءً؛ ومن ثمَّ فهو نبيٌّ أيضاً، زيادةً على هذا وذلك إنَّ إخوةَ يوسف إذا كان سجودُهم ليوسف من باب طلب المسامحة والمغفرة منه بداعي ما فعلوه به من جريمة، فما داعي سجود يعقوب إليه في الوقت الذي لم يرتكبْ فيه يعقوبُ أيَّ ذنبٍ؛ بل ابيضت عيناهُ حزناً وكمداً على يوسف نفسه، والظاهر أنَّ هذا الداعي هو الذي دفع الرازي لأنْ يستشكلَ على مسألة القول بسجود يعقوب ليوسف وذلك في قوله مُعْترِضاً: ((ففيه إشكال؛ وذلك لأنَّ يعقوبَ «عليه السلام» كان أبا يوسف وحقُّ الأبوةِ عظيمٌ؛ قال تعالى «وَقَضَى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً» (سورةالاسراء: 23))( الرازي: التفسير الكبير: 18/168)، من هنا لا وجه لـمَنْ يرى أنَّ السجود ههنا كان ليوسف مُطلقاً.

رأي الشيخ الطوسي في سجود آل يعقوب
وذهبَ الشيخ الطوسيُّ إلى توجيه الآية إلى مَنحيينِ؛ إذ يقولُ: ((وقيل في وجه سجودهم قولانِ: قالَ قومٌ: إنَّ الهاء في قوله «له» راجعة إلى الله، فكأنَّه قال: فخروا لله سجداً شكراً على ما أنعمَ به عليهم من الاجتماع، والثاني: أنَّهم سجدوا إلى جهةِ يوسف على وجه القُربة إلى الله، كما يُسْجَدُ إلى الكعبةِ على وجه القربة إلى الله))(الطوسي: التبيان: 6/197- 198)، ومن الغريب أنَّ الطوسيَّ لم يرجحْ أحدَ الوجهينِ؛ بل اكتفى بنقل الوجهتينِ وتوقفَ عند هذا الحدِّ، ونحسبُ أنَّ إحجامَهُ عن الترجيحِ كان بداعي إيمانه بأنَّ أيَّ الوجهينِ قد صَحَّ فهو دافعٌ للقول بعدم قبول تفسير مَنْ يرى أنَّ السجودَ كان ليوسف لا لله سبحانه، ويمكن القولُ إنَّ من يرى أنَّ السجودَ لله قد أسَّسَ مَنطلقَهُ على أنَّ اللامَ في قوله (له) تعليليةُ الدلالةِ؛ أي سجدوا من أجل يوسف لله سبحانه شكراً على نعمته، أما مَنطلقُ التوجيهِ الثاني فقد تأسَّسَ على أنَّ اللامَ في قوله (له) تفيدُ دلالةَ (إلى) التي تحملُ معنى انتهاءِ الغايةِ في التوجّه إلى جهةٍ معينة فكأنَّه قال (فخرُّوا مُتوجِّهينَ إلى يوسف سُجداً لله)، ونحسب أنَّ التوجيهَ الأولَ هو الأرجحُ، لأنَّهم إذا كانوا قد سجدوا مُتوجِّهينَ إلى يوسف فإنَّ يوسف قد سَجَدَ معهم فإلى أينَ قد توجَّه؛ من هنا نحملُ دلالة اللام في قوله (له) على السببية أي أنَّهم سَجَدُوا من أجل يوسف شكراً لله؛ ذلك بأنَّ الموضوعَ الأصلَ إنما يتعلقُ بيوسف نفسِهِ؛ لهذا يمكنُ أنْ تُعدَّ اللام سببية أيْ إنَّ السجودَ كان بسبب يوسف؛ لأنَّ اللهَ تعالى قد أنقذَهُ وأوصله إلى هذه المرتبة الشريفة؛ ولأنَّه قد عادَ إلى أبيه وإخوته سالماً؛ من هنا حقَّ السجودُ اعترافاً بهذه النعمة الجليلة؛ وبهذا يكونُ القولُ بالسببيةِ أرجحَ من القولِ بأنَّ اللامَ بمعنى (إلى)؛ لأنَّ القولَ بأنَّهم سَجَدُوا إلى الله مُتوجِّهينَ إلى يوسف لا ثمرة فيه، فالتوجُّهُ إلى يوسف لا أثرَ له ولا قيمة ما دام السجودُ للهِ سبحانه، غير أنَّ القولَ بأنَّ السجودَ من أجل يوسف إلى الله هو أجدى وأقربُ إلى تحقيق المراد بناءً على مُلابساتِ الموقفِ التي تقتضي الاعتراف بالذنب واللجوء إلى شكر الله من أجل سلامة يوسف (عليه السلام)؛ لذا نرجِّحُ الاتجاه التفسيري الثاني وهو تماماً ما عرضَهُ الإمامُ من دلالة لهذه الآية سلفاً، ويبدو أنَّ الإمامَ في نقده لـمَنْ يفهمُ أنَّ النصَّ يبيحُ السجودَ لغيرِ اللهِ تعالى قد فَسَّرَ عملية سجود الملائكة لآدم «عليه السلام»، فإنْ كان العقلُ لا يؤيدُ إمكانَ سجودِ الإنسانِ إلى الإنسانِ فإنَّه قد يُتَسامَحُ في مسألةِ سجودِ الملائكةِ إلى الإنسانِ الأولِ (آدم)(وذلك تشخيصاً في قوله تعالى: ((فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ)) سورة الحجر:30)، باعتبار أنَّه معجزةٌ من معجزاتِ اللهِ تعالى في خلقه، غير أنَّ الإمامَ قطعَ هذا الظنَّ التفسيريَّ بقوله: (كما أنَّ السجود من الملائكة لآدم لم يكن لآدم، وإنَّما كان ذلك طاعةً للهِ ومحبةً منهم لآدم)؛ فعُلِمَ من هنا أنَّ السجودَ لا يكونُ لغيرِ اللهِ البتة؛ ولهذا نُقِلَ عن الإمام العسكري (عليه السلام) قوله بهذا الشأن: ((لم يكن له سجودهم- يعني الملائكة- لآدم …. ولا ينبغي لأحدٍ أنْ يسجدَ لأحدٍ من دون الله يخضع له كخضوعه لله ويعظّمه بالسجود له كتعظيمه لله، ولو أمرتَ أحداً أنَ يسجدَ هكذا لغيرِ الله لأمرتُ ضعفاءَ شيعتِنا وسائرَ الـمُكلَّفينَ من متّبعينا أنْ يسجدوا لـمَنْ توسّطَ في علوم علي «عليه السلام»))( الشيرازي: الامثل: 3/68).

نشرت في الولاية العدد 87

مقالات ذات صله