صحافة نجفية: لغة الدين ولغة العلم

الصحافة-النجفية

ظهرت بواكير الصحافة في النجف الأشرف منذ سنة 1910م، وبالرغم من قلة الموارد وحداثة التجربة آنذاك، إلا أنّها حققت قفزات نوعية نافست التجارب الصحفية على المستوى الإقليمي، إذ واكبت الأحداث العالمية أدباً وسياسةً وثقافةً، وبلورت الهموم والآمال التي يحملها المفكرون تجاه الأمّة. وفي هذا الباب تقدّم لكم (الولاية) سلسلة مختارة من المقالات المنشورة في مجلات النجف القديمة إحياءً لهذا الإرث الإعلاميّ الخالد، ووقوفاً على معالم من تفوّقه الذي عجز كثيرون في هذا الزمان عن مجاراته.

نشرت في مجلة الاعتدال لصاحبها محمد علي البلاغي السنة الثالثة 1935-1936م
أ. محمد جواد أفندي آل جلال

ما زال  الكثير من علماء هذا العصر يحاولون فصل الدين عن العلم ويريدون بالدين انه جملة اعتقادات وعبادات يتقرب بها العبد الى معبوده، وبالعلم ما بني على التجارب والاختبارات كالعلوم الطبيعية ويرون ان الدين والعلم امران لا يمكن اجتماعهما بحال فما كان من الدين لا يمكن ان يكون من العلم في شيء لان الاول لم يكن الا بمجموعة تقاليد موروثة في العقائد والعبادات لا تخضع لقوانين العلم وقياسات العقل اما الثاني فمبني على الحس والمشاهدة والنظر العقلي.
المنطلق العام والخاص فيهما
وهؤلاء اذا ما اطلقوا لفظ (الدين) ارادوا به الجنس العام بلا فصل ولكنهم لا يريدون في لفظ (العلم) إلا معناه الخاص، فاذا قالوا ان الدين مباين للعلم ارادوا بالأول جميع الاديان من دون استثناء وارادوا بالثاني العلم الطبيعي دون سواه ونحن انما نناقشهم في هذه الناحية، فان كون بعض الاديان لا يتفق والعلم الطبيعي لا يلزم منه ان كل الاديان كذلك كما ان مباينتها للعلم الطبيعي لا تستلزم انها مباينة للعلوم العقلية الاخرى كعلم النفس والمنطق وعلم ما وراء الطبيعة، على اننا اذا اخذنا الدين الاسلامي مجردا مما لصق به لرأيناه من اكثر الاديان انطباقا على العلم واقواها معاضدة للعقل، بيد ان هناك من يشك في هذا القول ويرى ان الاسلام وان اخذ مجردا فان الكثير من تعاليمه لا يؤيدها العلم بل قد يعارضها ولا ريب ان هذا جهل بحقيقة الاسلام وجوهره والذي جر هؤلاء الى هذا الجهل بعد ما بين اللغتين -لغة الدين ولغة العلم- فان لكل من العلم والدين لغة تباين لغة الاخر سواء ذلك في اسلوب التعليم ام في اسلوب التأليف.
البناء على الحس والمشاهدة
خذ كتابا في التوحيد الاسلامي وتتبع الاسلوب الذي يجري عليه مؤلفه في البحث عن الصانع تعالى واثاره وصفاته تجده لا يعنى الا بالبراهين الكلامية التي لا تتفق ومصطلحات العلوم الحديثة وخاصة العلوم الطبيعية المبنية على الحس والمشاهدة فاذا اراد المؤلف البحث عن وجود الصانع تعالى شأنه قال: (الموجود ان كان واجبا فهو المطلوب وان كان ممكنا افتقر الى مؤثر بالضرورة وذلك المؤثر ان كان واجبا ثبت المطلوب والا افتقر الى مؤثر ايضا فان كان هذا واجبا فهو المطلوب والا تسلسل او دار) واذا اراد البحث عن قدرته قال: (ان العالم حادث فالمؤثر فيه ان كان موجبا لزم حدوثه او قدم العالم والتالي بقسميه باطل فظهر ان المؤثر قادر مختار) واذا أراد البحث عن علمه قال: (الاحكام والتجرد واستناد كل شيء اليه دلائل العلم) وخذ كتابا في العبادات تجد مؤلفه يتوفى فيه سرد النصوص المأثورة لبيان فضائلها ومزاياها دون شرح وايضاح ففي تشريع الصلاة يقول: (الصلاة عماد الدين اذا قبلت قبل ما سواها واذا ردت رد ما سواها من لا صلاة له لا ايمان له).
وفي تشريع الصوم يقول: (نوم الصائم عبادة وصمته تسبيح وعمله متقبل ودعاؤه مستجاب).
وفي تشريع الحج يقول: (الحاج مغفور له وموجوب له الجنة ومستأنف به العمل ومحفوظ في اهله وماله).
منطق العلم الجديد
كل ما ذكر لا ترضاه التربية الحديثة ولا يقبله منطق العلم الجديد لانه لا يفهم هذه اللغة ولم يألف هذه التعابير فهي في عرفه تعابير لا يؤيدها العلم ولا تثبتها التجربة ونحن لا نريد ان نقول بقوله او نعتقد معتقده لا اعتراض لنا على مأثور الدين الحنيف ونصوص الشريعة الغراء لعلمنا انها لم ترد الا عن وحي مبين ولسان صادق وانها كانت في الزمن الذي قيلت فيه كبيرة القيمة عظيمة الفائدة موفية بالغرض اما اليوم وقد قويت فيه نزعات الشك واندكت فيه اسس العقائد فلم يعد الاقتصار على ذكرها كافيا ما لم تشرح شرحاً وافيا يشهد به الحس ويقبله العلم.
ونأتي الآن الى اسلوب العلم الحديث لنستجلي صورته ونتعرف لغته وبحسبنا ان نقف عند كتاب من كتب التاريخ الطبيعي او الكيمياء او الفلك فنرى المؤلف يقول عند كلامه على تركيب الخلية الحية (البروتوبلاسما): انها مركبة من اربعة عناصر هي الاوكسجين والهيدروجين والكربون والازوت، غير اننا لو اردنا تركيب خلية حية من هذه العناصر مع المحافظة على نسبها الكيمياوية لما امكننا ذلك لان الخلية ليست تركيبا كيماويا فحسب بل هي جسم حي.
ويقول اخر عن الفيل: انه يستخدم خرطومه كما يستخدم الانسان يده لان ضخامة جسمه استلزمت ضخامة رأسه وضخامة رأسه استلزمت قصر عنه ولما كان تناول الطعام من الارض عسيرا عليه فقد مدت الطبيعة في انفه وهو ما نسميه بالخرطوم وبه يستطيع ان يلتقط الاشياء الدقيقة حتى الابر.
ويقول اخر عن الفصول: ان ميل محور الارض عن مستوى الفلك بسبب حصول الفصول الاربعة التي لولاها استحال وجود الحياة على سطح الارض.
ولا ريب ان هذه التعابير غير موصلة الى التعليل العلمي الصحيح كما ان نسبة القصد والاحكام الى الطبيعة الصماء امر غير معقول وبهذه اللغة لا يستطيع طالب العلم ان يصل الى حل مرضي لآية ظاهرة من ظواهر الكون وحينئذ يكون ادراكه للأشياء ادراكا سطحيا لا يكسبه يقينا ولا يقفه على حقيقة.
عدوّان لاختلاف لغتهما
او ليس يجد نفسه امام حقائق مجهولة؟ فيقول مستوضحا ما سر حياة الخلية؟ ولماذا لا نستطيع تركيبها من عناصرها المكونة لها وكيف شعرت الطبيعة بحاجة الفيل الى الخرطوم فمدت في انفه؟ وما سبب الميل الى محور الارض؟ هذه الاسئلة تشغل بال الباحث فتدفعه الى طلب الحقيقة فلا يجد في اصول العلم الحديث ما يوصله الى طلبه سوى هذه الالفاظ (الطبيعة، الحرارة، البيئة، الوراثة، الاثير)وهي ليست عللا أولية بل كل منها مفتقر الى تعليل، وحينئذ لا يجد الباحث في هذين العلمين -علم الطبيعة علم الدين- ما يشفي له علة او يروي له غلة لاختلاف لغتيهما وتباين غايتهما وسيبقى الدين عدو الطبيعة وتظل الطبيعة عدوة الدين ما دام لكل منهما لغة خاصة واسلوبه المباين.
لقد كان هذان العلمان لعهد الاغريق متآخيين متآزرين لا غنى لاحدهما عن الاخر ولا مزية لاحدهما الا بالاخر لانهما كانا متفقي اللغة متحدي الغاية فكانا في كتب الفلسفة الاغريقية يمشيان جنبا الى جنب في البحث عن حقائق الاشياء وربط الاسباب بالمسببات والاستدلال على وجود العلة الاولى وصفاتها واثارها ثم جاء الاسلام بالتوحيد المحض فلفت الانظار ووجه العقول الى الكائنات الطبيعية من سماوات وارضين وحيوان ونبات متخذا من آياتها الباهرة وحكمها العجيبة انصع الادلة واقوى البراهين على وجود الصانع وتوحيده واثاره وصفاته ويكفي لإثبات ذلك مراجعة ادلة التوحيد في القرآن المجيد ووصف السماء والارض والانسان والطاووس والخفاش والنملة والجرادة في كلام الامام علي عليه السلام، أما اليوم فقد انقطع حبل الصلة بين الدين والطبيعة فتنافرا وتناكرا وصار لكل منهما حزبه الذي يتعصب له ويناضل عنه وخلت كتب الدين من اية قاعدة طبيعية كما خلت كتب الطبيعة من اية فكرة دينية، ولو انصف المنصفون من الحزبين لعلموا الاّ سبيل الى التوحيد إلا الطبيعة ولا غنى للطبيعة في تعليل اسرارها عن التوحيد وان محل التوحيد من الطبيعة محل الشعاع من السراج والنتيجة من المقدمتين.

نشرت في الولاية العدد 88

مقالات ذات صله