إنها الليلة التي وُعدتُ بها

4m4g9243

حيدر محمد حسين

ليلة ليست كأي ليلة، إنها ليلة وعده الرسول(صلى الله عليه وآله) بها..
هي الليلة التي يفارق فيها الراعي رعيته، والحاكم أمته..
هي الليلة التي انجلت عن أعظم مصيبة حلّت بالمسلمين بعد فقد النبي(صلى الله عليه وآله)، فانفتل عقد جمعهم، وفقد الأيتام أباهم، بل لقد صار الكل في ذلك اليوم أيتاما..

تهدمت والله أركان الهدى..
لقد اقتربت نهاية حياة كانت مليئة بالفداء والبطولات، مليئة بالإيثار والتضحيات، مليئة بالتعب والمشقات، مثقلة بهّم الفقراء، مشبعة بخوف الآخرة، مملوءة بالشفقة على الدين، محمّلة بأحزان المتقين.. حياة رجل تصدى لحمل الأمانة التي أبت أن تحملها السماوات والارضين، رجل له مع كل طرفة عين خشية من الله، ومع كل نَفَسٍ همّ في سبيل الله، ومع كل لحظة زهد لأجل مرضاة الله، فاستبدل الثوب الناعم بالصوف الخشن، واستعاض بالطعام الطيب الشعير الجشب، واتخذ من تراب الأرض فراشا عوضا عن الأرائك والحُصُر، ومن الطين اللازب بيتا بدل القصور ذات الحجب.. لم يرَ في خلافة المسلمين مغنما لامتلاك جاه، أو مصدرا لنماء أموال، أو مرتعا لخلود ذكر، بل كان يحملها همّا على همّه العظيم الأوفر، ويرفع عبأها على عبئه الثقيل الأكبر، ولكن لا مفر.. فهو الأليق بها والقيّم عليها.

وكذلك تكون عبادة الأحرار..
هل لنا أن نحيط معرفة بقلب كان أوسع من ملكوت الكون، قلبٌ قال فيه ربّ الكبرياء: (ما وسعني سمائي ولا ارضي، بل وسعني قلب عبدي المؤمن).. لا يفرحه مدح المدّاحين، ولا يثنيه لوم اللائمين، ولا تضلّه خدع المبطلين، ولا يخشى كيد الخائنين.. حكيم يعرف كيف يجاري أحداث القدر، وطبيب يعلم كيف يداوي النفوس بالعِبر، وعالم يعرف ما مضى من الدنيا وما قد بدر.. اقل الناس كلاما وأصوبهم نطقا، أكثرهم تواضعا وأعظمهم قدرا، أبشرهم وجها وأكثرهم هيبة، ارقّهم قلبا واربطهم جأشا، أجودهم كفا وأشدهم مخمصة، يأمن في كنفه الأتقياء، ولا يطمع في وهنه الأعداء، يعطف على اليتامى حتى يتمنى الناس أنهم أيتام، فلقد كان أباً لا يشابهه أب..
ما أعظم تلك الكفّ التي طالما أطعمت في سبيل الله الفقراء، ورُفعت في محراب عبادته للدعاء، وضربت ابتغاء مرضاته الأعداء، وقسمت على الرعية بالعدل البيضاء والصفراء، واستصلحت بجدها الأرض الجرداء.. على مدى السنين المتطاولة التي ما نام قلبه فيها طرفة عين.. فما أعظم الحياة التي لا يتحملها أحد إلا من هو بمنزلة ابن أبي طالب..

إنها الليلة التي وُعدتَ بها..
وتغيرت ملامح الدنيا، واكفهّر وجه الدهر، فقد صارت نهاية هذه الحياة وشيكة.. ولماذا هذا الخوف والترقب؟!
لأن الدنيا لم تشبع من هذا الثمر الجني، ولأنها لم تروَ من هذا النبع النقي، ولأنها لم تبرّد حشاها من هذا النسيم الزكي، إنها لا تطيق أن يفارقها علي(عليه السلام) إلى غير نشأة مع انه طلقها ثلاثا لا رجعة فيها، إنها تسجد عند أعتابه على الرغم من انه اعرض عنها، إنها تدعوه وتناغيه مع انه لا يكلمها، فأي غنى يملكه هو؟ وأي فاقة تملكها هي؟ أم أي موقف ترتاده حتى يرضى عنها؟ هيهات.. هي أدنى أن تكون له خطر، انه يبتغي شيء هو اسنى من كل نشأة، انه يبتغي وجه الله تعالى..
وتقاربت اللحظات رهيبة يتلو بعضها بعضا، فليت القدر يوقف مسير الزمن، وليت القضاء يطوي صفحة المحن، إن قلب التاريخ يخفق خوفا من اللحظات الآتية.. قال(عليه السلام): (والله ما كذبت ولا كُذبت، إنها الليلة التي وُعدتُ بها).
كلمات لكأنها الصاعقة على أسماع شيعته ومحبيه، لو يرى الجُناة مقدار ما أثكلت مصيبته من خلق، إذاً لذهلوا من هول ما عاينوا..
لقد سرى الخوف من دنو الساعة واستفحل، فخشع له حتى الجماد والدواب، فانحل المئزر وصاح الإوز فقال(عليه السلام):
أشدد حيازيمك للموت
فان الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت
إذا حــــــــــــلّ بناديكا
كما أضحكك الدهر
كذاك الدهر يبكيكا
وإذا كان شان الأرض هكذا فالله اعلم ما كان من شأن السماء..

ليت قلوبنا وقاية لجسدك المقدس..
وأهوى أشقى الأشقياء بسيفه على رأس الإيمان كله، فصاح جبرائيل، واصطكّت أبواب المسجد، وهرب الشيطان، وفزع المؤمنون، وفارت الأرض دما عبيطا تحت كل حجر.. لقد تهدمت أركان الهدى، وانفصمت العروة الوثقى، لقد خسرت الدنيا اشرف خلق الله بعد محمد(صلى الله عليه وآله)..
تبدل خوف التاريخ إلى حزن سرمدي، فلقد انقضت اللحظات عن أسوأ مصيبة حلت بالمسلمين بعد فقد النبي، فاظلمت الدنيا بعيونهم، وانفتل عقد جمعهم، وفقد الأيتام أباهم، بل لقد صار الكل في ذلك اليوم أيتاما..
الكلمات تعجز عن وصف المصاب، لكن القلوب تعيه من دون كثير كلام.. فالعيون عبرى والصدور حرّى، وغصص الألم تجري في صدور الموالين إلى هذا اليوم، وتأتي بهم إلى حيث دُفن جسده الطاهر، يمسحون جراحهم على قبره المقدس، لأنه لا يزال البلسم الذي يداوي أرواحهم، والرحيم الذي لا يفارق أيتامه..
فسلام عليه يوم ولد.. ويوم استشهد.. ويوم يبعث حيا..

نشرت في الولاية العدد 95

مقالات ذات صله