طائر .. الثقوب السوداء

11109593_1635742226662028_4191938541395709035_n

فائق الشمري

تحقق الحلم وانتهت اللعبة، وجد نفسه في فضاء لا يعرف له أول ولا آخر، تتطاير حوله الحروف والأوراق، مكبرات الصوت والمنابر، شاشات عملاقة، وصور ملونة لوجوه متعددة، غاضبة، فرحة، باكية.. كل الفصول ببردها وحرها تتقلب حوله، وتدور بشكل حلزوني نحو ذلك الثقب الاسود الذي يلتهم كل ما يراه بنهم، وما ان يلبث حتى ينفجر كالبركان فيملأ المكان بقيئه اللزج، جملا للاستهلاك المحلي، وكلمات تتجر بآلام الثكالى..
تنعق حوله تلك الثقوب بفخامة وتحيل حاضره إلى كوابيس، ونجوم ظهر فيذوب حتى ينسكب ركاما من أشلاء الكلمات.. ذاكرته المخرومة تزدحم فيها الحروف والكلمات.. تتطاير في فضاء بلون الحبر، تبحث عن الحقيقة وساعات الاحتضار في عالم يعشق الكلمات المعسولة ويسكر لوقع الجمل الوردية.. في عالم يبني أمانيه من الحروف ويقتات المعاني البلهاء..
منذ زمن المكرمات وعطايا القائد الضرورة.. والشعب المغلوب على أمره يقتات الموت خبزا أدامه الدم العبيط، منذ صرخة ونيف ومازالت تلك الثقوب السوداء توغل عميقا في ذاكرته، تلتهم أحلام الطفولة وأمنيات الغد المؤجل، وضحكات صبية الشارع وهم يمارسون لعبة الاختفاء، لم يكن يدرك ان الكبار يمارسون ذات اللعبة عندما يدفنون رؤوسهم في أسفلت الشارع حتى لا يغضبوا ضرورة من تلك الضرورات التي أولدها هبل أصناما نسبح لها آناء الليل وأطراف النهار.
أيقن انه الرقم القادم بقائمة الشيطان التي لم تغلق منذ ان عرف القتل ومارس هوايته بقطف الرؤوس، منذ ذلك التاريخ تعلمت الثقوب قوانين الذبح على الطريقة الإسلامية، ودونت ملاحظة مهمة بحروف بارزة: ( لا تنس أن تكبر وأنت تذبح من الوريد إلى الوريد).
نسي وجوه جلاديه وهم يحيطون به فوق ظهر تلك العجلة التي تسير به في شوارع المدينة.. كتم آلام جراحه ودار بعينيه محدقا بتلك الأكف التي تلوح له بحماسة..
تساءل عن كل تلك الساعات التي تسبق عرس الخلود، وسخر بسره من الطقوس التي تمارسها الأصنام بلحاها الكثيفة وشعورهم المنسابة انسياب الافاعي، وأيقن حينها أن الاحجار تتقن الرقص بدم بارد..
كان شعورا غريبا، فجميل ان يستقبل المحارب استقبال الفاتحين، وحدث نفسه لو أن أهالي مدينته الفقيرة حاضرة ليروا أبنهم كيف يهتف له الجميع، تمنى لو أن زوجته تراه وأبناؤه الصغار، نسى الأسر وهو يلمح عيون أبيه الحزينة ترمقه من بين الحضور، أيقن حكمة الشيوخ، وتذكر دعاءَه ان تمر الفرحة على خير..
كانت المسافة بين أقصى الموت وأول الحياة تستطيل كأنها الدهر، تمسك بمعصميه يدٌ رقطاء تغرز مخالبها فيهما وتسحبه نحو مذبحه، تحيطه الشتائم وتركله الكلمات، وينغمس في ظهره نصل الغدر كلما تعثر بالمسير، أقتيد نحو الجسر تحيطه أفعال الأمر فتزجر، وتنهر، وتتقاذف من الفم النتن حروف متكسرة بلهجات غريبة دنست تلك الأرض فحجبت عنها الحياة ..
كان يسير ببطء كأسد جريح، ترمقه العيون الشامته، وتتساءل عن سر هذا الكوكب الدري وما له من كبرياء، فمه المبتسم للموت، وقدمه الجريح يختط الأرض ويمزج التراب بدمه العبيط فراتا تنعى مياهه الحزينة لؤم الجرف وحقد رمال الصحراء، يصرخ.. فينتفض الدرب حتى يلامس الجسر، يتحسس الحديد الصدأ ويحدثه عن قربان آخر قادم لعناوين تأبى الأفول..
كانت جل أحلامه ان يعيش دون أن يزعج العصافير، يحب كيف يشاء، ان يذوب بالضوء، ويردم الحفر السوداء.. كل مشكلته انه جاء من أقصى الجنوب الى أعالي الفرات ليلتقط تلك الكوفية الحمراء من الأرض وينفض عنها التراب ولا يسمح لأحد ان يدوسها بقدميه او تكون منديلا لمسح دم العذارى من على سيف الخليفة..
أراد أن يحب، فدنا فتدلى من ذلك الجسر وقلب كفيه فوجدهما بيضاوين من غير سوء، ضمهما الى صدره ورفعهما نحو السماء فتطايرت من بين أصابعه شهب الضوء لتنير درب التبانة بنون والقلم وما تيسر من كتاب الضوء، يرتل حروفه ليغسل وجوها مسفرة تحدق نحو الشمس وتبتهل لترى يوما أخر لا يشبه أيامها السود..
كان الحبل يلتف حول رقبته ويشده نحو الأعلى كريشة يلاعبها الهواء، تملأ أذنيه أصواتا ملائكية، لم يكن قبل ذلك الموقف يتقن الطيران، حتى أحس أن زغبا ينمو على أديم ذراعيه وما إن لبثتا حتى استطالتا جناحين يضربان الهواء بخفة عالية بحركات متتالية ومتناسقة واحدة بعد الأخرى، ليعيش هذه التجربة الفريدة، عندما يتساوى أمامه الزمان والمكان، وينكشف له الغطاء فيرى وجوه سجانيه الملثمة على حقيقتها، خنازير وقردة تلهث بلؤم وهم يسوقونه إلى حتفه.. أدرك عندها انها نهايتهم وبدايته، نظر أليهم وقد ألتف العار على رقابهم ويحيلهم جثثا هامدة، وفي ذات الوقت كان يواصل الطيران نحو الأعلى وينظر بحسرة لتلك المدينة التي أنتخى لها هو ورفاقه كيف تتضاءل كثقب أسود في الذاكرة.

نشرت في الولاية العدد 95

مقالات ذات صله