طالب شبر
ورد في معنى (التقوى) أنه الاحتراز عن المعاصي والحذر عما نهى الله تعالى عنه، كما ورد أنها التخلي عن كل مذموم والإقبال على كل محمود، وقيل إنها حالة ضبط النفس والتسلط على الشهوات، وقيل إنها الإحساس بالمسؤولية والتعهد الذي يحكم وجود الإنسان وذلك نتيجة لرسوخ الإيمان في القلب، إذ يصده عن الفجور والذنب ويدعوه إلى العمل الصالح والبر.
وكل هذه التعاريف تصب في معنى واحد يؤدي إليه معناها اللغوي، فالتقوى مشتقة من «الوقاية» التي تعني المواظبة والسعي على حفظ الشيء من الضرر والهلكة.
وقد جعل أمير المؤمنين(عليه السلام) قضية التقوى العنوان الرئيس للتربية والإصلاح، إذ أن من المسلّمات الواضحة في الشريعة الإسلامية كون التقوى هي السبب الأساس في كبح جماح الهوى، وهي التي تعصم الإنسان من الانزلاق في وحل الضلال والانحراف، لذلك فان الإمام(عليه السلام) قد وظّف الحث على التقوى لغرض إصلاح النفس بكل جوانبها، فقال(عليه السلام): (فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ مِفْتَاحُ سَدَادٍ وَذَخِيرَةُ مَعَادٍ وَعِتْقٌ مِنْ كُلِّ مَلَكَةٍ وَنَجَاةٌ مِنْ كُلِّ هَلَكَةٍ، بِهَا يَنْجَحُ الطَّالِبُ وَيَنْجُو الْهَارِبُ وَ تُنَالُ الرَّغَائِبُ)( نهج البلاغة: 2: 223).
وكثيراً ما نجد في طيّات تلك الكلمات القدسية لأمير المؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة مدح التقوى والتأكيد على خصالها الفريدة وثمارها الجليلة، ما يشعر بأنه(عليه السلام) يستخدم وصف التقوى الرائع بوصفه طريقا يرغّب السائرين فيه للاتصاف بهذه الصفة التي دعت إليها الرسالات السماوية جميعها، قال(عليه السلام): (أَلَا وَإِنَّ التَّقْوَى مَطَايَا ذُلُلٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا وَأُعْطُوا أَزِمَّتَهَا فَأَوْرَدَتْهُمُ الْجَنَّةَ)( 1: 48). وقال(عليه السلام): (لَا يَهْلِكُ عَلَى التَّقْوَى سِنْخُ أَصْلٍ وَ لَا يَظْمَأُ عَلَيْهَا زَرْعُ قَوْمٍ)( 1: 50). وقال(عليه السلام): (اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ التَّقْوَى دَارُ حِصْنٍ عَزِيزٍ وَ الْفُجُورَ دَارُ حِصْنٍ ذَلِيلٍ لَا يَمْنَعُ أَهْلَهُ وَلَا يُحْرِزُ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ، أَلَا وَبِالتَّقْوَى تُقْطَعُ حُمَةُ الْخَطَايَا وَبِالْيَقِينِ تُدْرَكُ الْغَايَةُ الْقُصْوَى)( 2: 51).
ويبدو من خلال تتبع بعض الخطب المباركة في نهج البلاغة أن الإمام(عليه السلام) لا يكتفي بوصف التقوى ومدحها في مقام الترغيب على التخلّق بها كما ذكرنا سابقا، وإنما يصف شخصيات حيّة تمثل بسلوكها الواقعي روح التقوى، ولعل هذا المنهج هو المنهج الذي اتبعه القرآن الكريم في عرضه لسيرة الأنبياء والصالحين، فمن جملة أغراض هذا العرض هو الموعظة والاقتداء بها من قبل المؤمنين، قال تعالى: (وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)(هود/120) وقال تعالى: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)(الأنعام/90).
ومن الخطب التي وصف فيها امير المؤمنين(عليه السلام) شخصيات حيّة تمثل بسلوكها حقيقة التقوى، خطبته التي قالها في وصف المتقين حين طلب صاحبه (همام) منه ذلك، وخطبته الرائعة التي قالها بعد تلاوته لقوله تعالى: (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ) (النور/37)، وخطبته في وصف أخ صالح له والتي جاء في مطلعها: (كَانَ لِي فِيمَا مَضَى أَخٌ فِي اللَّهِ وَ كَانَ يُعْظِمُهُ فِي عَيْنِي صِغَرُ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ…)( 4: 69) وأمثال ذلك.
ولا يفوتنا أن نذكر في هذا المقام أن مثل هذه الخطب والكلمات في وصف عباد الله المخلصين تشتمل على صفات واسعة تشمل حتى الإحساسات الخفية التي يعيشها المتقي في داخل ذاته، ومن الواضح أن هذه المواصفات مما لا يمكن تشخيصها ومعرفتها بالوسائل العادية، وإنما هي من مختصّات أولئك الأولياء الذين لا يفشون تلك الخفايا في العادة بُعدا عن الفخر وحرصا على كتمان السر، لذلك يُعد الوصف العميق والدقيق لتلك الصفات في نهج البلاغة كنزا من الكنوز التي أبداها أمير المؤمنين(عليه السلام) للناس كي يستفيدوا منها حق الفائدة.
نشرت في الولاية العدد 96