الشعر وقضية الإبداع

شاكر القزويني

إن الشعر (فن قولي) وهو بهذا يعتمد اللغة كوسيلة في إيصال رسالته، لذا فهو كما يراه «مالارميه» تعبير باللغة البشرية التي أرجعت إلى إيقاعها الأساس، إيقاع المعنى الغامض لمظاهر الوجود، بمعنى أن شرط الشعر ينبع من اكتساب لغته إيقاعاً خاصاً يتشكل من قوة الغموض في الطبقات العميقة للمعنى، تلك التي تحاول تفسير مظاهر الوجود المعقدة تفسيراً شعرياً، ينتظم في بنية إيقاعية داخل النص الشعري، وهو بهذا يوصف على انه بنية رمزية تفتح أبوابها من داخل شبكة الدلالات التي تمتزج بها، ضمن ارتباط حيوي بين الشعر والموسيقى والعلاقة العضوية بينهما.

ويمثل الصوت أصغر وحدة إيقاعية في المفردة الداخلية في نسيج القصيدة الشعرية، فيلتحم إيقاع المفردة الشعرية بمحتواها الدلالي، إذ أن للشعر قوته في كشف سرية العلاقة وكشف غموض الصلة بين معنى الصوت والمعاني المصنوعة وانزياحاتها وتأويلاتها المقصودة وغير المقصودة لدى الشاعر، ويعمل الإيقاع بوصفه المرحلة الصوتية الأكثر نضجاً وصيرورة على دعم هذا الفضاء من خلال إنتاج الفعل الصوتي في النص.
إن الوزن هو وعاء إيقاعي يخلق المناخ الملائم للترانيم الإيقاعية في النص، فالوزن الشعري تعبيري، مما يعني أن بؤرة الدلالة وانعكاساتها تعطي للوزن شكله الإيقاعي الخاص، أي انها تتفاعل مع بناء النص وبنيته الفنية بشكل مؤثر وفاعل. فيقول غوته في هذا المعنى:»لا وجود لفكرة شعرية فنية حية دون إيقاع».
الترخص العروضي ارتقاء بالأوزان
لكن هل هذه الأوزان والإيقاعات الشعرية جدار صلد لا حراك فيه ولا روح، كزنزانة تلقى بها المعاني؟ أي ان الوزن بمجموع تفعيلاته أو ما يسمى بالبحر هل هو نظام لا مرونة ولا حراك فيه واذا ما كان هناك امكانية على التجاوز أو التلاعب بهذا النظام العروضي، فالى أي حد وكيف ؟ وعن هذا التساؤل أجاب «الدكتور عبد الباسط بدر» قائلا : إن الترخص العروضي سواء أزحافاً كان أم علة هو في تحقيق وضعه ليس أكثر من «مجرد انحراف عن النظام، به يصبح ذلك النظام أكثر وضوحاً وأقوى ظهورا، شريطة أن تقع درجة هذا الانحراف داخل إطار الاستجابة الكلية للمتلقي»، بمعنى أن الهدف الأساس من هذا الترخص العروضي وإسهامه في تغير إيقاع القصيدة ليس تحطيم النظام وخرقه على نحو عبثي، بل هدفه «استعادة النظام»، كما يقول «تي أس اليوت» بما ينسجم ويتلاءم مع خصوصية التجربة وقوانينها الداخلية. وبهذا فان موسيقى الشعر، لم يلحقها تغيير كبير، وظلت تعتمد على الأوزان المعهودة والقافية، وظهرت تنويعات محدودة تتمثل في المسمطات والمزدوجات والمخمسات، ولكنها لم تلق تشجيع النقاد، حتى أن «ابن رشيق» عدّها مظهرا من مظاهر ضعف الشاعر. وعندما شاعت في وقت متأخر لم تحدث سوى تلوين محدود في التنغيم الأساسي لموسيقى الشعر.
ردود فعل النقاد للمحدثين
وحول ما ذهب اليه الشعراء المحدثين وردود الفعل التي واجهتم من قبل النقاد أشار الشاعر «حيدر شمران» الى هذا الموضوع قائلا: أحدث شعر المحدثين ردة فعل قوية عند النقاد اللغويين فرفضوه لسببين: الأول أنه ليس من العصور التي يحتج بها في اللغة والنحو والصرف، والثاني أنه يتضمن خروجا على «عمود الشعر» الذي ألفوه في شعر الجاهلية وصدر الإسلام، وتركزت الخصومة حول أبي تمام والبحتري، فأبو تمام رأس المحدثين والبحتري رأس العموديين آنئذ، وقد عرف لابن الأعرابي قوله المشهور عن شعر أبي تمام: «إن كان هذا شعرا، فما قالته العرب باطل»، وقد أسقط النقاد فيما بعد السبب الأول فألغوا عنصر الزمن من مقاييس المفاضلة، ورفضوا أن يعطوا القديم أية ميزه إضافية بسبب قدمه، وأعلن ابن قتيبة أنه «لم يقصر الله العلم والشعر على زمن دون زمن، ولا خص به قوما دون قوم، بل جعل ذلك مشتركا مقسوما بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثا في عصره…»،ثم ظهر أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي، ونصب الموازين النقدية ليوازن بين الشاعرين ويبين حسنات كل منهما وعيوبه، فكانت الخلاصة ان الحداثة ممثلة في شعر أبي تمام. وقد ظل كثير من النقاد من بعد يستأنسون بموازنة الآمدي كلما عرضوا لمذهب البديع أو لعمود الشعر العربي .
من أخطاء الشعراء العروضية
وفي الخوض ببحور الشعر وأنغامه قد يقع شعراء العمود حتى المتمرسين منهم بأخطاء تم رصدها وتحديدها من قبل المعنيين بهذا العلم العروضي، فيبين لنا الشاعر وهاب شريف تلك المسألة قائلا : هناك شعراء عموديون يكتبون على الوزن والقافية ولكن الذي لاحظته مؤخرا انهم يعتنون بالوزن ولا يهتمون بعلم القوافي الذي هو علم بحد ذاته فمثلا يتصور الكثير من الناس ومن الطلاب ومن المبتدئين ومن الموهوبين فضلا عن الشعراء بان القافية هي الحرف الاخير فالكلام ليس بهذه السهولة عن علم القافية, لأن علم القافية يعتمد على الحروف الثلاث الاخيرة التي هي ما نسميه «القافية»، وان الحرف الأخير هو حرف الروي والحرف الذي يسبقه هو حرف الرس والحرف الذي يسبق حرف الرس هو حرف الأس، اذا القافية تتكون من آخر ثلاثة أحرف هي الأس والرس والروي. فهناك نظام ملاحي للخوض فيه يراعى فيه الحركات وحرف التأسيس من غير الجائز مخالفته بزعم مقولة :»يحق لشاعر ما يحق لغيره».
الإيقاعات وقدرات الشاعر الإبداعية
إن ابتكار الإيقاعات الجديدة في القصيدة إنما يعمل على توسيع قدرات المتلقي على الإحساس ويرهفها. ويرى «أليوت» أن ثمة روابط كثيرة لم تستكشف بعد ولعلها غير قابلة كليا للانكشاف بين إيقاع الشاعر وما يمكن أن يدعي دون تشدد إيقاع العصر، وفي هذا المبحث يرى الشاعر والناقد «عبد الرضا جبارة» ان: الإيقاع ينتمي إلى نمط الأفعال الإبداعية المبتكرة التي لا يحكمها نظام موسيقي مهيمن، فهو لا يجري على نسق واحد حتى وإن ارتبط بأكثر من إيقاع بنظام وزني واحد (بحر)، وهذه الصفة هي التي تمنح القصيدة القابلية على الإنجاز الشعري المتقدم في ضوء قدرات الشاعر الإبداعية في هذا المجال.
فيكون الايقاع مؤسسا لشبكة علاقات داخل النص حيوية تدفع الى انتظام النص الشعري بجميع أجزائه في سياق كلي، يجعل منها نظاماً محسوساً، ظاهراً أو خفياً، يتصل بغيره من بنى النص الأساسية والجزئية. وعادة ما يكون عنصر التكرار فيها ظاهرا ولا سيما انه يتصل بتجربة الأذن وقدرتها على تذوقه. فالقصيدة إذا تتشكل إيقاعيا، في تراص وتشابك حيوي بين الدلالة والنغم الإيقاعي، في مسعى ابداعي حثيث من الشاعر.
ووفق هذا تكون هناك بؤرتان واحدة للمعنى وأخرى للصوت تنصهران في بوتقة الشعر السحرية، لتنتجا أبعادا وفضاءات دلالية أكثر تجذرا وعمقا وأكثر تحليقا يتماهى مع البنية الإيقاعية داخل شرنقة واحدة لا تنتج سوى كائن واحد لا يقبل التجزئة.. هو الشعر.

الالتزام بالتقليدي دلالة على القدرة
ويدلوا الشاعر «مهدي النهيري» بدلوه بشكل واضح ومباشر في قضية الأوزان وبحورها عند الشعراء، فيقول: ان الشعر العمودي وبمرور الزمن قد قسمه الشعراء انفسهم، بدوافع الحاجات انسانية الى اوزان مختلفة، وظهر متأخرا في بلاد الأندلس من الشعر العمودي الشعر الاندلسي وهذا الشعر فيه آلاف الاوزان التي تختلف عن الاوزان التي نعرفها عن الشعر الجاهلي والشعر العباسي. فالشعر الاندلسي عاصر الشعر العباسي ولكن في منطقة جغرافية مختلفة عن المنطقة العربية، فاضافوا الى تفعيلة القصيدة الاندلسية «فاعلن» التي لم تكن موجودة في ايقاعات وأوزان الشعر العربي، الا في الكتابة العروضية.
ما أريد قوله ان الالتزام بالقانون الذي وضعه الشاعر العمودي الاول من اوزان وايقاعات، والتي حددت بسبعة عشر او ستة عشر وزنا هو دلالة على قدرة الشاعر وتمكنه من ان يسير في ركابها، ولو شاء الشاعر ان يكسر الوزن داخل القصيدة العمودية، فانما ينم هذا عن ضعفه وعدم قدرته على مجاراة أولئك الشعراء، لأنه غير قادر على ان يأتي بأفكاره، دلالات ومعان تامة، من خلال هذه البحور والأوزان .
الشعر من صلب كينونة الأمة
وبعيدا عن الإيقاعات والأوزان والدلالات وبنيتها تحدث الشاعر «ضرغام البرقعاوي» عن الشعر كهوية للأمة وتراثها، قائلا : الشعر العمودي يمتلك من الاصالة مالا يمتلكه اي شكل اخر من الفنون والآداب لأن الشعر العمودي متجذر في التاريخ ومتجذر في التراث وهو من صلب كينونة هذه الامة ويمثل هويتها عبر القرون فالشاعر نزار قباني وشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري هم امتداد لإمرئ القيس وكعب بن زهير وزهير بن ابي سلمى، لان هذه الامة امة العرب امة الاسلام عرفت الشعر ديوانا لها وعشقته فبالتالي كانت القصيدة العمودية هي نتيجة لتراث ونتيجة لحراك فكري انساني امتد لسنوات.
ولمّا علّقت المعلقات فهي لم تجئ من فراغ او مصادفة، وانما جاءت بعد مخاضات للقصيدة العربية بكل تاكيد، وهذا راي الكثير من النقاد، وحينما نستقرئ الشعر الجاهلي العمودي نجد فيه الرصانة وقوة السبك والبلاغة والعذوبة الغضة رغم يباب وقفر بلاد العرب، فما جاء هذا الإبداع الا بعد مخاضات من الادب وفنون الكلام، والان لربما تعاني القصيدة العمودية الا انها تبقى راسخة في ضمير الأمة وان استحدثت هجمات وظروف موضوعية ظهرت كهجوم قصيدة النثر وهبوط اللغة وانحدارها.
وأنا أرى ان من يروج لقصيدة النثر انما ينبي عن هجمة تجاه الشعر العمودي، لربما تحاك في اروقة لا نعرفها، ونحن الان بحاجة الى الشعر العمودي لانه يمتلك موسيقى عالية تدخل الى القلب والى الاذهان ونستطيع ان نعبئ ونحشد من خلال الشعر العمودي.
الإتيان بالجديد وقضية الإبداع
وعن ذهاب بعض الشعراء الى استحداث بحور وأوزان شعرية وايقاعات غير مطروقة لا توجد في القوالب التقليدية لبحور الشعور، عاد النهيري ليعطي رأيه في هذا الموضوع، قائلا: رغم موقفي الواضح من الالتزام ببحور الشعر وقوالبها التقليدية الا ان اضافة وتر لآلة العود الموسيقية هو اضافة مبدعة ورائعة لأننا أضفنا نغمة جميلة أخرى، ولا اشكال في ذلك، هذا من حيث المبدأ، ولكن ان القضية هنا في ان شعراء كبار جربوا هذا ولم تشتهر تجربتهم، وهذا دليل على عدم نجاح تجربتهم، وان الفراهيدي صاحب العقلية الفذة استخرج هذه الاوزان ولم يستقر الا على ستة عشر وزنا رغم ان هنالك اوزانا اخرى ولكنها مهملة متروكة، فالعرب او الاذن العربية لم تستسغها، فاستقر على الاوزان الستة عشر، اي لو جئنا بأوزان جديدة الان لربما هي كانت موجودة عند الفراهيدي والشعراء العرب، ولكنها أهملت وانتفت الحاجة اليها، وكما قلت آنفا، أنا لست مع كسر الوزن وانما مع كتابة التفعيلة وكتابة الشعر الحر وايضا مع اضافة اوزان اخرى لربما تحصل على الاهتمام والتقييم المطلوب لنجاح هذه التجربة الشعرية.
وفي ختام هذا الخوض في بحور الشعر وأمواج معانيه الغائرة في الجمال نقول لربما يأتي من هو أعمق وأكبر ابداعا من الفراهيدي ليوجد لنا أوزانا وإيقاعات وبحوراً تستطيع سفن الشعراء أن تمخر فيها خلقا مبدعا للجمال واجابات لأسئلة الكون العسيرة.. وتبقى كلمة لأندريه مورو يقول فيها : «إن العمل الفني الذي يُبالغ في إتقان صنعه هو عمل فني سيئ الصنع»

نشرت في الولاية العدد 102

مقالات ذات صله