علي عليه السلام وحياة الخلود

الشيخ بدري البدري

علي (عليه السلام) أمير المؤمنين حقاً وإمام المتقين صدقاً وسيد المجاهدين فعلاً، متى ذكر اسمه تمثلت فضائله الجمة وتزاحمت في أذهان وضمائر عاشقيه ومريديه صور الشجاعة والبطولة والفداء ممزوجة مع صور الإنسانية والإيثار والعطاء بأروع أشكالها.
وحق للمرء أن يعجب بحياة ولي من أولياء الله في أرضه وحجة على عباده، فلقد كان مظهراً كاملاً وصورةً ناصعة جليةً في الانقياد والخضوع لأوامر الله تعالى وإرادته، ويأتي بجميل يمُّنُ به عليَّ من يعرفني بألفاظ كافية في قاموس اللغة العربية تعرف وتعبر عن شخصية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام). وهذا بلا شك لسان المنصف البعيد عن الغلو والعاطفة في وصف إنسان كان في كل مراحل حياته ومواقفه عابداً لربه، فلم يكتفِ بالعبادة في أوقاتها المحددة، بل كانت أيامه كلها منطلقاً للتقرب والصلة بالله وقد أعطى أجمل صورة في ذلك، فتراه ساجداً آناء الليل هامدة أطرافه محلقة روحه في عالم الملكوت وهو يناجي ربه ويثني عليه ويرجو رفده ولطفه، وتجده بين المسلمين يحن عليهم ويرق لهم ويجمع كلمتهم ويرجو نجاتهم من شر الدنيا وفوزهم بنعيم الآخرة، وتراه في ساحات الحرب ومواجهة أعداء الله باذلاً نفسه في سبيل الله والدفاع عن الرسول (صلى الله عليه وآله) ورسالته مستعداً للقاء ربه .

علي (عليه السلام) أول السابقين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) بُعث رسول الله (صلى الله عليه وآله ) يوم الإثنين وأسلمت يوم الثلاثاء وقال في أبيات له:
سبقتكم إلى الإسلام طراً                  غلاماً ما بلغت أوان حلمي
وقال أيضاً:
أنا أخو المصطفى لاشك في نسبي         به ربيت وسبطاه هما ولدي
صدقته وجميع الناس في بُهَم                 من الضلالة والإشراك والنكد
فقد أخذ الصفات الكريمة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) منذ نعومة أظفاره، ولننظر إلى كلمات علي(عليه السلام) وهو يصف منزلته من المصطفى (صلى الله عليه وآله): وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله)بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، ضعني في حجره وأنا ولد، يضمني إلى صدره، ويكنفني إلى فراشه، ويمسني جسده ويشمني عرقه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل، ولقد قرن الله به (صلى الله عليه وآله) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه إتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالإقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري. ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخديجة وأنا ثالثهما أرى نور الوحي والرسالة، واشم ريح النبوة. ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلى الله عليه وآله ) فقلت يا رسول الله: ما هذه الرنة ؟ فقال: إنه الشيطان أيِّس من عبادته. إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي. ولكنك وزير وإنك لعلى خير.
بادر علي (عليه السلام) إلى إعلان إسلامه وهو صبي، والكلام في أنه أول من أسلم ليس دقيقاً، كما يبين الشيخ الأميني خلاف هذا المعنى فيقول: نحن لا نقول أن علياً أول من أسلم فإن البدء بـ(الإسلام) يستدعي سبقاً من الكفر، ومتى كفر أمير المؤمنين (عليه السلام) حتى يسلم؟ ومتى أشرك حتى يؤمن؟ وقد انعقدت نطفته على الحنيفية البيضاء، واحتضنه حجر الرسالة، وغذته يد النبوة، وهذبه الخلق النبوي العظيم، فلم يزل مقتصاً أثر الرسول قبل أن يصدع بالدين الحنيف وبعده، فلم يكن له هوى غير هواه، ولا نزعة غير نزعته. ويقول العلامة الأميني: إن المراد من إسلامه وإيمانه وأوليته فيهما وسبقه إلى النبي في الإسلام هو المعنى المراد من قوله تعالى: عن إبراهيم عليه السلام: (وأنا أولُ المسلمين). وقال ابن أبي الحديد: ما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى وآمن بالله، وعبده، وكل من في الأرض يعبد الحجر ويجحد الخالق، لم يسبقه أحد إلى التوحيد إلا السابق إلى كل خير: محمد (صلى الله عليه وآله).

علي (عليه السلام) الفادي
معلوم أن صفة الفداء عند علي (عليه السلام) ملازمة لشخصه الكريم منذ طفولته حين كان ملازماً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في بدء دعوته والمشركون يلحقون بالنبي (صلى الله عليه وآله) كل أنواع الأذى وأبنائهم يرمونه بالحجارة وعلي (عليه السلام ) جعل من بدنه حاجزاً وصداً دون النبي (صلى الله عليه وآله) ونفسه فداءً لنفسه الشريفة، حتى أن أبناء الكافرين إذا أرادوا إلحاق الأذى بالنبي يسألون هل معه المحامي؟ وكان إذا أمسك أحدهم على صغر سنه يقطع أذنه أو أنفه فيقولون هل «قُضَمٌ» موجود فإن كان موجودأً لم يدنو من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومتى لم يكن علي حاضراً عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومدافعاً عنه بمهجته؟ وكما في صغره، هو في شبابه يعرض نفسه للموت مراراً لحفظ شخص النبي (صلى الله عليه وآله)، فقد خلق الله علياً ليكون أحسن وزير وأشرف نصير للرسول (صلى الله عليه وآله) وأوفى مدافع وأقوى مجاهد في سبيل الله وتثبيت دعائم الإسلام، فلم يدخل الخوف قلبه، ولم تتوتر في الأهوال أعصابه، وما استولت عليه الغرائز، غريزة حب الذات أو الأنانية أو حب الحياة، فتراه حين اجتمعت آراء وأيدي المنافقين والمشركين معاً من مختلف القبائل للقضاء على الرسول (صلى الله عليه وآله) لما رأوا قلة أنصاره فراحوا إلى داره ليلاً ليضربوه بأسيافهم ضربة واحدة فيضيع دمه فلا يطالب به أحد، عندها كانت ملحمة الإيثار والفداء، حيث أمر الله نبيه أن يقول لعلي أن يبيت على فراشه ويفدي نفسه له، فرحب علي بالأمر مسروراً ووطن نفسه للتضحية دون أخيه المصطفى (صلى الله عليه وآله) حتى نزل قول الله تعالى يمدح صنيعه: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءُوف بالعباد) وصار إيثار علي ليلة المبيت حديث مدح الملائكة في السماء.
ويقول الكاتب المسيحي جورج جرداق في كتابه (علي صوت العدالة الإنسانية) أما علي بن أبي طالب، فما كان أعجب من أمره يوم غامر في سبيل عقيدته التي هي عقيدة محمد (صلى الله عليه وآله)، وفي سبيل الحق ورعاية الشرف والإخاء هذه المغامرة التي لم يعرف التأريخ أجل منها، وأقوى وأدل على وحدة الذات بين عظيم وعظيم.

مسك الشهادة ولقاء المحبوب
وما حوت أيام علي (عليه السلام) مابين فتوة وزهد وتقوى كانت محل ثناء المؤمنين ونشيد فخر تردده صفحات التأريخ، وسيرة هجرة وجهاد نزلت في مدحها آيات الذكر الحكيم، وبين أمنيات كان يرددها أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكان يقول: والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أحب إلي من ميتة على فراش، وبين حديث لرسول الله (صلى الله عليه وآله) يحدث به علياً (عليه السلام): كأني بك وأنت تصلي لربك وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود، يضربك ضربة على قرنك فخضب منها لحيتك.
وطالما كان يردد (عليه السلام) متى يخرج أشقاها فيخضب هذه من هذه ويشير إلى هامته ولحيته المقدستين.
وكم هيأ نفسه واستعد لآخرته حتى عشق لقاء ربه وأعدَّه فوزاً، وحين يأتي الموعد وهو أقرب ما يكون إلى ربه، وهو ساجد يذكر حسن صنيع المعبود ويسبح آلاءه يأتي الشيطان متمثلاً بيد ابن ملجم الآثمة فيعلو بها هام الدين وركنه ويدمي قلب الرسول والرسالة فتنوح الجن والإنس لفقده وتبكي الطير والوحش وتعج الملائكة في السماء لمصابه، فيرفع الوصي رأسه الدامي مستبشراً بلقاء ربه وماعنده ولسان حاله ينطق به لسانه : فزت ورب الكعبة.

نشرت في الولاية العدد 106

مقالات ذات صله