الإنسان و الإيمان

سجاد حيدر

الطبع البشري حسّاس في تكوينه النفسي والفسيولوجي ويعمل بطريقة حسّاسة تجاه كل ما يواجهه من المواقف والحوادث وتكون له ردة فعل معينة تجاه كل موقف وحادث. فالمواقف الجيدة والوقائع الحسنة والأحداث الملائمة تكون لها آثار جيدة على طبع الإنسان وتؤدي دورا إيجابيا في نموّ شخصيته من الناحية الفكرية والمعنوية والجسمية وتعمل جميع الأنظمة الحياتية بطريقة طبيعية, وعند مواجهة المشاكل والصعوبات والمواقف الحرجة تسوء حالته النفسية وتكون لها آثار سلبية بدءً من بدنه وما تجري فيه من العمليات على مستوى الخلية وصولاً إلى السلوكيات و الأفكار.

الإجهاد والضغوط النفسية
كشف بحث أمريكي أن الإجهاد والضغوط النفسية التي يتعرض لها الأفراد بشكل يومي يمكن أن تسبب بعض أنواع السرطان، في حين وجدت دراسة أوروبية مشابهة أن الإجهاد مضر لصحة القلب. وأظهرت الدراسة التي نفذها باحثون من جامعة «ييل» الأمريكية، أن الضغوط النفسية اليومية قد تحفز نمو الأورام، وأن أي صدمة، عاطفية أو جسدية، يمكن أن تكون بمثابة «ممر» بين الطفرات السرطانية التي تؤدي في النهاية إلى الإصابة بأورام خطيرة.
وتبين نتائج الدراسة، التي نشرت في دورية الطبيعة ، أن الظروف اللازمة للإصابة بهذا المرض يمكن أن تتأثر بالبيئة العاطفية بما في ذلك كل المهام اليومية التي نقوم بها سواء في العمل أو في نطاق العائلة.
يقول البروفسور تيان إكسو، المختص في علم الوراثة من جامعة ييل: «هناك الكثير من الظروف المختلفة يمكن أن تؤدي إلى الإجهاد، والحد منه أو تجنب الظروف المسببة له دائماً نصيحة جيدة..»
وتناولت دراسة أوروبية جانباً آخر للإجهاد، إذ أظهر بحث بريطاني تأثيره السلبي على القلب وما يمكن أن يتسبب به من أمراض، لتؤكد علمياً الاعتقاد السائد منذ القدم بارتباطه بالنوبات القلبية.
وأُخضع كل المشاركين لاختبارات ضغط ومن ثم قيست مستويات هرمون الكورتيزول، وهو هرمون الإجهاد الابتدائي الذي ينتجه الجسم عندما يتعرض إلى ضغوطات نفسية أو جسدية، ويؤدي في حال إطلاقه إلى تضييق الشرايين. ولاحظ الباحثون أن المشاركين ممن أصيبوا بالإجهاد جراء الاختبارات كانوا الأكثر عرضة، وبواقع الضعف، للإصابة بضيق الشرايين، عن أولئك الذين احتفظوا بهدوئهم).
الإنسان المحبط
فالإنسان المحبط الذي يتعرض للحرمان و الهزيمة يكون عرضة للكبت وتبقى آثار كل هذا كامنة تحت الشعور وتحدث نتائج مهلكة في سلوكه وبناء شخصيته فيصاب بالعقد النفسية و يصبح طبعه عدوانيا ويريد أن ينتقم من المجتمع فيلحق الضرر بكل من يستطيع الإضرار به. و نماذج هذا القبيل من الناس تراهم في عالمنا اليوم كثيرا وقد تجد أن أمثال هؤلاء عندما يجدون مبررات مبنية على المغالطة من رؤية دينية أو علمانية خاطئة لأعمال العنف والظلم والهمجية يضربون الرقم القياسي في التوحش.
هكذا يفسر علم النفس الإنسان الذي يعيش الأزمات و الضغوط النفسية في الحياة ويرجع جميع الحالات غير الطبيعية بل وكل الأمراض الجسمية إلى الأسباب النفسية الناتجة عن الضغوطات النفسية الناشئة من مواجهة الحالات غير الملائمة والمؤلمة.
من هنا تجد أن المجتمع يفقد أساس القيم من الرحمة والإيثار والفداء والتضحية والعفو والعطف والصفح ويصبح غابةً, البقاء فيها للأصلح والتقدير والتنعّم للأقوى وتتصادم المنافع والمصالح، وفي مثل هذه الأجواء يصير العباقرة من أصحاب الفكر والقلم مدافعين عن الوضع الراهن ويسيرون مع السيل المدمر إلى حيث يتجه، متناسين أنه يهلك الحرث والنسل ، كما يصوغون التوحش في فلسفات ونظريات لهدم بناء القيم ولإعطاء الهمجية اعتباراً علمياً لتبنى عليها الحضارات الجديدة على دماء الأبرياء ولتقوم المدنية الحديثة على حساب الدين الخالص والأخلاق السامية.
ولكن هناك ثلة من الناس يترفّعون عن قيود هذه التحليلات وكأنهم لا ينتمون إلى عالم الطبيعة الذي نعتاده حتى تتحكّم فيهم قوانينه، بل مُزج الإيمان بأرواحهم وأجسادهم وأصبحت قلوبهم معلقة بالعالم العلوي فلا يزيدهم كثرة البلاء إلا رحمةً وليناً.
الجانب الروحي
هذه الرؤية لعلم النفس إذا لم نقل أنها حقيقة مئة بالمئة فهي تحظى بقدر كبير من الصحة وتشير إلى الحالة الغالبة في المجتمع الإنساني إذ إن الطبع المادي للإنسان شديد النزعة إلى العدوان والانحراف لو لم يربَّ التربية الصحيحة ولم يوجه التوجيه السليم. ولكن هذه الأبحاث لم تأخذ الجانب الروحي في الاعتبار ولا تهتمّ بما فطر عليه الإنسان من النقاء والصفاء والطهارة وما ركب في جبلته من حب الخير وما أودع في فطرته من الميل إلى الكمال ولم تدرس تلك المعارف التي جاء بها الأنبياء عليهم السلام ولم يتعمّق أصحابها في رسالاتهم وفي سيرتهم وفي الشخصيات التي تربت على أيديهم، ولو أنهم فعلوا ذلك لاختلفت رؤيتُهم وتغيرت كثير من القواعد التي وضعوها وتبدّلت المعايير والأصول التي اعتمدوا عليها في دراسة النفس البشرية لأن في تكوينها أسرار وحقائق تضرب بأعماقها إلى باطن العالم وما وراء الطبيعة فلا يتمكن من تربية الإنسان إلا من كان له قلب سليم يبصر ما وراء المادة وعقل أمين من الوقوع في الشبهات وسلوك نزيه من المعاصي والزلات.
الأنبياء و الأولياء عليهم السلام يركزون في بناء شخصية الإنسان على قضية الإيمان وهي حقيقة لو فقدها الإنسان يبقى يضطرب ويقلق ويهم ولا تقرّ عينه ولا يطمئن قلبه ولو أعطي ما في الأرض جميعاً، بل سيزداد مللاً وضجراً وسأماً من الحياة ونعمه كلما غرق في الشهوات وتغلغل في الملذّات لا لسبب ماديّ بل لأنه فقد الإيمان الذي هو رمز اتصال هذا الكائن المعقد بسرّ الوجود وحقيقته، ويهدأ فوران همومه و كروبه بالإيمان وعنده يسكن قلبه ويطمئن, وكأنه اتصل ببحر من العظمة لا نهاية له، وتمتلئ روحه بهجة لا نظير لها وسروراً لم يشعر مثله ولذة لم يذقها من ذي قبل.
الإيمان هو الحل
فالإيمان يزيل الآثار السيّئة الناتجة من الحرمان والهزيمة والألم التي لا مفر منها في الحياة ويجبر تلك الجروح التي يتعرض لها القلب في المواقف الحرجة والأحداث المؤلمة ويرجع به إلى حالته الطبيعية وتتقوى على مواجهة أشد المواقف ومواصلة الطرق في الظروف الصعبة.
الإيمان طاقة عظيمة كامنة في قلب الإنسان تنير ظاهره وباطنه وإذا وُجد في قلبٍ فإنه يضمن له النجاح والسعادة أولاً لأنه يبتني على رؤيةٍ كونية حقيقية يمشي صاحبها في الدنيا على بصيرةٍ واضحة، وأيضاً لأنه مرتبط بعالم الغيب وله آثار معنوية لا يمكن تفسيرها بالألفاظ ولا تحليلها بالآلات وهو يفتح على طبعه الماديُّ النزعةِ آفاقاً جديدة فيروض ويستسلم أمام الأجواء الطاهرة وتتفجر منه ينابيع الرحمة في سلوكه وعمله، وذلك الإنسان المتعرض للأزمات تظهر منه أعمال كلها رحمة ولطف وترسخ في نفسه عادات وملكات سامية من العفو والصفح والمغفرة ويصبح الإنسان معجزة يستعصي على تحليلات الدراسات النفسية المعقدة لأمثال فرويد، إذ إنه كلما كثر بلاؤه وامتحانه وتكالبَّت عليه المصائب والنوائب لم تكسِره بل يزداد رحمة وليناً لبني نوعه.

نشرت في الولاية العدد 107

مقالات ذات صله