الخطاب الجمالي لملصق الفن البصري

د. أحمد عبيد كاظم ـ جامعة الكوفة

إذ أن المنطلقات الأساسية للتيارات الفنية لما بعد الحداثة قامت على أساس استثمار معطيات الإحساسات البصرية في الاتجاه التشكيلي, أي التفتيش عن الأثر الذي يتركه المشهد المصور على عين المشاهد عبر منظومته الإدراكية, وتقصي الايهامات البصرية المظللة للعين والهدف من ذلك تأكيد العلاقات النفسية وإدخال الجهد العلمي في المجالات الفنية كما في النموذج رقم (1).
ظهرت براعة فناني الفن البصري من خلال توظيف تقنيات مستعارة من البصريات والسينما والميكانيكا والكهرباء والالكترونيات في نهج جديد بسيطاً ومتماسكاً بصياغة تشكيلية تتناسب وواقع الإنسان المعاصر بتقنياته الصناعية وتغيراته اليومية وصولاً إلى وحدات تشكيلية متعددة العناصر البنائية في الأشكال والألوان من استخدام القيم البيضاء والسوداء إلى تحقيق الإيهام البصري بين الألوان الحارة والباردة وصولاً إلى تراكم البنى الهندسية وتجاوز الخطوط وتوزيع الألوان المسطحة والمتفاوتة الأعماق إلى ظواهر متنوعة كالالتماع أو التموج وتوهج الألوان وانتشارها وتداخلها, لتحقيق استجابة يبحث عنها الفنان البصري في عين المشاهد. والنتيجة أن المفاهيم الجمالية للفن البصري تنحسر في مفاهيم التقنية, كانعكاس لواقع صناعي, يبحث عن مسوغ صوري لإحساسه البصري.
والباحث يحدد أهم خصائص وسمات ملصقات الفن البصري بأنه : يمتاز بأنه ذو نزعه هندسية تجريدية فأشكاله ذات حافات حادة. وانه يعتمد مبدأ الحركة لجذب الانتباه. كما انه يسعى لنقل الحركة في المجال الواقعي إلى المجال الإيهامي من خلال ما يقدمه الفنان من أحاسيس بصرية وعبر وسائل وتقنيات مبتكرة تعتمد الضوء والحركة والعلوم البصرية وتوظيف وسائل الدعاية والإعلام. فضلا عن ان دور الفنان منجز العمل الفني سيكون دورا ثانويا في فضاء ثقافي قريب من مصطلح (موت المؤلف) في التفكيكية, إذ ما يهم هو المتلقي. كما في النموذج رقم ( 2 ).
وفي دراسة تحليلية لملصق الفنان هوبرت هيلشر الذي يحمل عنوان (وارسو الخريف), مهرجان الموسيقى المعاصرة عام 1971بتقنية الطباعة مستوية (اوفسيت) بقياس 100سم×70سم والعائد الى أكاديمية شوبان فرد يريك للموسيقى في العاصمة وارشو, في النموذج نجد عودة الى الإرث العقلي في التنظيم والترتيب وتفعيل بنية الشكل الخاضع للقياس الحسي والعقلي بما يضيق من حرية الفنان وكذلك المتلقي. إذ تم مغادرة الجانب الإنساني وغياب التعبير الوجداني, والتأكيد على الإحساس البصري الذي يشترط نوعاً من العمليات العقلية التي تعتمد معطيات الحس, فما يقدم للمدرك البصري يتحقق على حساب التعبير الوجداني, فنحن أمام خطاب آلي يتماشى والمدى التكنولوجي للحياة المعاصرة, والباحث يرى في النموذج رقم(3) إحباطا في عملية القراءة والحكم الجمالي, الذي يحاول المتلقي الوصول أليه وإيجاد المعنى والدلالة فهو خطاب رافض لمبادئ مركزية أو أيديولوجية أو قيمة تدعي الحقيقة, في مجتمع يؤمن بالتعددية والحرية وحقوق الإنسان بدون سلطة أبوية ـ تأثرا بفلسفة المجتمع وجنوحه نحو الفردانية والحرية المزعومة ـ وإن الحقيقة متعددة بتعدد المراكز والذوات أيضاً, فهي شكية مستمرة عدمية في الفكر والإنتاج ولعل مقولة موت المؤلف واحتكاره المعنى والحقيقة تحققت بوضوح في الفن البصري من خلال غياب الذات المبدعة وأثرها التعبيري الوجداني, والاكتفاء بخلق ايهامات بصرية تعتمد خلق أرباك إدراكي في المنظومة البصرية للمتلقي, بل إقصاء كل ما هو خارج الشكل المحسوب رياضياً ضمن متواليات هندسية أساساً معرفياً ونفسياً للمتلقي, أي تغيب الأسس المادية للأشكال المدركة عن طريق الإدراك الحسي ولعل تعدد المراكز للأشكال الهندسية من خلال ألوانها المتقدمة والمرتدة وظلالها وحركتها في الفضاء تقع ضمن اللعب اللا متناهي التي تمارسه التوزيعات الهندسية للأشكال المستطيلة المجسمة وتوظيف فكرة الاتجاه مع التنوع في درجات القيم اللونية مكّن من الانتقال المستمر من الجزئي الى الكلي وبالعكس, كما إن تفكيك حركات نظر العين الى انعكاسات لا مركزية أو بؤرية تأخذ دور الإيقاع في الحركة من الأعلى الى الأسفل متزامنة مع الإيقاع اللوني لعملية التحولات الحركية واللونية في مخيلة المتلقي. والنماذج الأخرى تؤكد ذلك الإيقاع .

نشرت في الولاية العدد 107

مقالات ذات صله