شاكر القزويني
ما الذي يجعل الآخرين يخافون التشيع رغم انهم مسلمون ويعلنون شهادتهم ب(لا إله إلا الله)؟ لمَ يخفون شعائرهم والتصريح بحبهم لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ما الذي يدفع الى معاداتهم ومحاولة اسكاتهم والنيل منهم ؟ هذه التساؤلات وأخرى كثيرة تمر على كل ذي لب من الناس، ولا سيما الشيعة أنفسهم، واذا ما علمنا طبيعة الشيعة المسالمة واتباعهم التقية لفترات طويلة من الزمن التي ضاق فيها حبل(الناصبية) على رقابهم وحريتهم من التعبد وطريقتهم بتقوى الله والتقرب الى رضاه، لمعرفة أسباب هذا العداء وهذا التوجس والنأي تنقلت مجلة الولاية بين عدد من أصحاب الرأي والدراية، للأخذ بأطراف هذه التساؤلات لفهم الصورة ومديات الالتقاء والتباعد بين محب ومبغض وغير مبال.
الخوف من ثورة الإصلاح
وعن أسباب هذا الخوف والابتعاد عن هذا المذهب المتمسك بالإسلام ومادته الأساسية للهداية والنجاة تحدث الدكتور نبيل حميد الجبوري/ جامعة بابل، قائلا : ان شيعة علي بن أبي طالب كانوا ولا زالوا من أكثر المسلمين تمسكا بنهج محمد صلى الله عليه وآله وفق طريقة علي وفاطمة وأبنائهم عليهم السلام، ومن الجلي ان طريقتهم هي الطريقة الصعبة في اتباع هذا النهج، ومنذ بواكير الاسلام الأولى، فهم من تعرضوا لأذى قريش هم أداة الغزوات الأولى، فهم الصامدون والمضحون يوم تخلى الأخرون، وهم الباذلون الباقون يوم تفرق من أهتز قلبه أو طمع بمغنم، فهم أصحاب الإمام علي عليه السلام في الجمل وصفين والنهروان وكل واقعة قوّم بها أبا الحسن عليهما السلام ما اعوج من ممارسات في دين الاسلام، حتى أورثها لولديه الحسن والحسين منازل للكفاح والتقوى والصبر الجميل، فكانوا قادة وعي وصلاح وثورة، وكان الطف مثالا للعطاء الثر والفداء الذي لا نظير له يوم أعلن سيد الشهداء منهج الصلاح ثورة على البغي والعبودية.. فأصبح هذا ديدنا للثائرين ومشروع دين وحياة يتمسك بالحق والصلاح والعدالة، لا يحيد رغم انف الطغاة والمتجبرين، حتى أصبحوا أمّا مبعدين منبوذين من قبل السلطة الجائرة أو مغيبين في سجونها وطواميرها، أو تحت تراب الكرامة والشهادة، وكان هذا تاريخ طويل من الألم والمعاناة بعيدا عن شهوات الدنيا وملذاتها، فأسألكم بالله.. من يطيقها ومن يقدر على حمل مؤونتها بعد أن يعلن الولاء والانتماء لمسيرتها ؟ من سيقف مع منهج الثورة فيه على البغي والفساد والعبودية والأرض سجن كبير يحكمه الظالمون والطغاة ؟ من يقدر أن يدفع بأهله وأصحابه في طريق تعبده دماؤه ممزوجة مع دماء الأحرار، والدنيا في قبضة الشهوات والمغريات والرخاء المزيف بالدنيات والفجور.
دين الآباء والأجداد
حينما يكون التاريخ أشياعا ومذاهب كل يخالف الآخر ويقصيه عن الحق والقبول من الله تعالى ينبري لنا الأستاذ الدكتور علي النصراوي/ جامعة المثنى، ليتصدى لجوهر هذا المفترق حين يقول: ان تاريخا طويل تجاوز 1400 عام من الاختلاف والتناقض الذي يصل حد التكفير، يكفر بعضهم بعضا، وبعد حديث الفرقة الناجية وما يؤول اليه الرأي بالنجاة والخيبة والخسران، هذا المنطلق العقائدي وما آل اليه من ترسيخ في الانتماء عبر أجيال وأجيال خلال حقب الزمن وفي غمرة حراكه واصطفافاته الشعبوية والمناطقية والأسرية والمنفعية، تجعل من العسير القبول بنكران معتقد يبدد هذا التاريخ الطويل وهذا الانتماء العريق يلتصق به أبا وجدا وعمومة وخؤولة وأصحابا وأصهارا، كما في الجاهلية الأولى حين جاء الاسلام بنوره الواضح في وقت تمسك المشركون والكافرون بدين آبائهم وأجدادهم الغارق في الظلمة والجهل والضياع، فان انسلاخ الإنسان من مجتمعه وتاريخه ومعتقده يحتاج الى قوة وارادة ونفاذ بصيرة لها القدرة على اجتياحها وقلعها من جذورها لبناء حياة ومفاهيم عقائدية وروحية ليولد واقع جديد بل وانسان جديد.
محاربة أهل الحق والفضيلة
واذا ما كان هناك مسعى لبقاء الحال على وضعها والأفكار في جحورها لتتحجر وتتصلب وتنتن لا بد من يد خفية تجتهد وتسعى، فيقول الاعلامي مسلم القزويني بهذا الصدد : اننا نكاد في كل فترة من الزمن وفي كل مرحلة تاريخية وهذا لا ينحصر على أمة المسلمين فحسب ودولهم نجد دينا للدولة يتحكم بمصائر الناس وشؤونهم وعواقبهم، ورجال دين وقضاة شرعيون يسيرون على نهج الدولة ويأتمرون بأمرتها، ومما يجدر ذكره ان كل هؤلاء لم يكن بينهم يوما رجل دين أو عالم شيعي، ذلك لأنهم (رافضة) لا يقبلون تسخير الدين بيد السلطة الحاكمة، وهذا لايعني عدم وجود آخرين من المذاهب الأخرى لا يقفون موقفهم الا انهم حينها يكونون مغردين خارج السرب، وان مصلحة السلطة أيا كان شكلها الإبقاء على ما وصل من دين قد حصل تدجينه واخضاعه لها عبر الإغراء بالشهوات وأغراض الدنيا من سلطة وجاه ومال ونساء، فنشأ وعبر التاريخ سلطة دينية من الوضاعين والمتلاعبين والمتحايلين على الشرع وسنن الله وأوامره ونواهيه، فيصبح الظلم عدلا والفجور والفساد حلالا، وكل الكوارث التي تحل بالعباد من جراء الحكم الظالم قدرا من الله وامتحانا، فيصبح هذا الفضاء الشرعي والقانوني أمرا لابد منه لتستمر الهيمنة على المقدرات، فتنشأ مشاريع كتابة لطمس الحقائق وتزوير التاريخ لإغراق الوعي وحرفه عن مساره السليم، فيتخذ الفاسق أسوة والعادل التقي عدوا، وتبدأ صور تشويه أهل الحق تترى بلا انقطاع ما داموا عديمي الذمة والدين يغترفون أجرا على الأباطيل والشبهات والافتراء الذي يصلون به حتى صفوة الله تعالى وأنبيائه وهداته من المتقين، كل ذلك من أجل مشروع المال والحضوة عند الحاكم الجائر الذي اسمتدَّ شرعيته من تاريخ دول ظلمت آل بيت رسول الله سلام الله عليهم وسلبت حقهم واضطهدت شيعتهم أيما اضطهاد، مما زاد البون بينهم وبين أولئك الذين ارتضوا الغي والفجور بعلم أو دون علم بعد ان تكرست الصورة خلاف واقعها وحقيقتها، فأصبح الشيعي مبعدا منبوذا (رافضي) لا يلتقي طريقه بأطرقهم وأهدافهم المشبوهة المنصبّة على الهوى والمتع الزائلة.
الحركة الصهيونية والاسرائيليات
وللسيد الدكتور خليل المشايخي رأي في هذه الفرقة بين المسلمين ومصدر الموانع والجدران المحشوة بالخوف والشك والانحراف قال فيه : منذ عصر صدر الإسلام سعى اليهود وحلفاؤهم من الكفار لفت عضد الإسلام ورجاله المخلصين عبر الدس بكل الوسائل بما يحقق لهم هذا، فكانت الإسرائيليات تتناقل بين المسلمين كأنها مسلمات تدس السم بالعسل وتحرف الحق عن مواضعه بطرق وروايات شتى، ما استدعى المسلمين ولا سيما الشيعة لإرساء علم الكلام ليتمكن المسلمون من التمييز بين الغث والسمين ولدفع خطر التحريف والتضليل المبيّت، ولا زال هذا المسعى الخبيث من قبل الحركة الصهيونية العالمية التي اجتهدت لضرب القيم الاسلامية وشق عصا المسلمين وزعزعة الاسلام في نفوس المسلمين بايجاد أسباب للفرقة والخوف، مذهب من مذهب آخر، وكانت حصة الأسد من هذا التوجس والنأي والإقصاء ينصب على الشيعة الاثني عشرية، بسبب الموضوعية التاريخية وأجوائها الموروثة عبر مراحل حكم زرعت البغضاء ودعاوى المغالاة والشرك دون وجه حق في صورة معتقدهم ونهجهم الذي سنه رسول الله وعترته الطاهرة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
الولاية والمعارضة السياسية
ولكون الشيعة منذ قرون عديدة كانوا خارج السلطة الحاكمة التي انحرفت عن المعاني الاسلامية الخالدة، كان للإعلامي السيد أمجد الأعرجي وجهة نظر في هذا الموضوع، قال فيها : ان ولاية أمير المؤمنين عليه السلام كانت مفترق طريق بالنسبة للمسلمين، ومفصل تاريخي حاسم بالنسبة لدين الإسلام، إذ كان هذا الحدث الديني السياسي التاريخي الكبير موقفا عقائديا تمخض عنه اعلان دولة الخلافة بعد النبوة، ولمّا لم تُمَكّن هذه الدولة الهادية المهدية من بسط نورها على الأمة بعد مؤامرة السقيفة، أصبح أتباع هذه الولاية بمثابة معارضة سياسية للانحراف الذي حصل في شكل الخلافة والدولة التي أرادها الله تعالى وأعلن عنها نبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وامتدت هذه المعارضة على مدى قرون طويلة خلت حتى يومنا هذا في أغلب الدول الاسلامية، وجماعة المعارضة هذه هم كما يطلق عليهم أبناء السلطة ووعّاظهم بـ(الروافض)، فباتت سمة الرافضي هي النبذ وردة فعل الآخرين اليه الرفض لأكثر من الف واربعمئة عام، فالولاية الرافضية هي بطلان كل الأنظمة التي عقبت حكم الامام علي عليه السلام وابنه الحسن ومادة فناء مبررات وجودها، هذا موقف اصطفت معه جماهير عريضة ارتبطت مصالحها مع السلطة الحاكمة ساروا في ركب قوانينهم وتحت عباءة مشرّع وعالم استطاع تكييف الدين وفق حاجة السلطة ومديات نفوذها ومبررات وجودها، في وقت تقف الشيعة العلوية في الجهة الأخرى الرافضة بالطرق السلمية تارة وبالثورات تارة أخرى، مما أعطى للعداء والنفور مساحة ظلت قائمة على مدى التاريخ.
الشيعة فوبيا
الباحث هاشم الباججي يرى ان مسألة إبعاد الشيعة عن مشهد الحياة والحكم والخوف منهم أو كراهيتهم تأتت من عوامل متعددة، أوضحها قائلا : بالإمكان تلخيص الخوف من الشيعة من قبل بعض الطوائف الاسلامية او كما يطلق عليه حديثا الشيعة فوبيا نتيجة أربعة عوامل، هي الجهل، والعصبية، والانحراف عن الحق، والارث التاريخي ، وهذه العوامل مجتمعة قد أدت الى خوف او نفور البعض من التشيع ، ولابد هنا من الاشارة الى نقطة مهمة حول مسببات وجود العاملين الأوليين ألا وهي مسؤولية الطرفين عنهما لأنهما برأيي عملية فعل وردة فعل، فالجهل يقابله جهل والتعصب يقابله تعصب، ففي هذه الحالة فقط يحدث الاحتدام والتنافر والبغضاء، أما العامل الثالث أي الانحراف عن الحق فهو مرض فطري بسبب استيلاء الشيطان على العقول والقلوب، واخيرا العامل الرابع الذي يقع على عاتق المحدثين والعلماء الذين نقلوا لنا التاريخ وفق الآراء والأهواء والأغراض وليس وفق الوقائع الحقيقية والتاريخ الصحيح .
الثورة المعلوماتية تختتم المشهد
لذا فان هذا التاريخ من التضاد والإقصاء والنفور والصراع العقائدي والسياسي قد تمخض عنه ركام هائل من الفتاوى والممارسات العدائية والطائفية والسياسية المتطرفة، أنتجت أجيالا من الوعي المشوه والفكر المنحرف، صنعت في يومنا هذا داعش والقاعدة وجبهة النصرة وغيرها من التنظيمات الضالة، ومن جهة أخرى ونتيجة الوعي الحضاري المتنامي نجد اصطفافا للحق والتنوير مشهود في بقاع الأرض وحواضرها، منها ما يعيد قراءة التاريخ بطرقه الصحيحة ومن مصادره الموثوقة، ومنها من يحاول تجديد خطابه الفقهي والعقائدي بشكل يقبل الآخر بعيدا عن الجنوح للباطل على حساب الحق وأهله، ومنها من يجد من مراسيم الشيعة وطقوسها ولا سيما العاشورائية بعد تاريخ من الرفض والخوف والمعاداة، يجد انها مظهرا من مظهر الاعلان عن البطولة والإصلاح والفداء في سبيل العزة والحرية والعقيدة الحقة، هذا التبدل ساهمت فيه وسائل التواصل الاجتماعي والثورة المعلوماتية التي بددت الوهم وضباب الكذب والزيف المتراكم عبر التاريخ.
نشرت في الولاية العدد 111