شاكر القزويني
الشعر وكل صنوف الأدب والثقافة ومنابر التوجيه العقائدي والأخلاقي هي الأداة الحضارية التي تعبر عن سمات أمة ما وخصائصها المتفردة، بشكل مبهج مدهش جميل يفرض الاحترام والتقدير من الآخرين، فهذا الحيز من الإبداع بكل أشكاله وأصنافه هو كلمة سر ارتقاء الأمم، وهويتها التي تباهي بها، وتلتف حولها، وتنطلق من خصائصها نحو العالم لتلونه بهذه الذات المتدفقة بالعطار الثر والشخصية المتوهجة والمضيئة، البصيرة بكل أسئلة الكون والحياة والممات، والحقيقة ودواعي الجمال وكينوناته، وإن احتضان ورعاية ذلك الإبداع بشكل مدروس وصحيح هو السياسة المثلى التي يجب أن ينتهجها المجتمع والدولة عبر مؤسساتهما الراعية والمتبنية لهذه القضية ذات المسؤولية الجسيمة والملحّة لسلامة المجتمع ــ ماديا وروحيا ــ ومؤسسات الدولة من فتك الأمراض العضال والانحرافات الخطيرة في مسلك السلطة والناس على حد سواء.
الأخلاق .. بنية وعطاء
تلك الرعاية والدعم والتوجيه الواعي المدروس من قبل النخب والمفكرين تمكن أهل الابداع والفكر والثقافة من أخذ حيّز يناسب حجم ذلك العطاء الفذ والفكر الوقّاد أيّا كان شكل ذلك الابداع والنتاج الذي يتفاعل مع روح الجماهير وقادتهم.
لكن ما يتبادر إلى الذهن الكثير من التساؤلات التي تقف أحيانا في وسط تلك الرؤية السطحية والبسيطة لهذه العملية وفق هذا الطرح، فثمة تعقيدات وتفاصيل تتداخل في تشكيل اتجاهات الموهبة والعمل المبدع وخطاب الفكر والثقافة والدين على سبيل الخصوص، وأول تساؤل يتبادر إلى الذهن هو.. هل للأخلاق دور في تخريج تلك الموهبة وصقلها، وفي تحديد مسارات الخطاب العقائدي والفكري بل وحتى المنظور الاقتصادي المتبع في سياسة البلد الاقتصادية ومنهجها الذي تتبناه ؟ وهل الثقافات الشوهاء والتراكمات السلوكية المنحرفة ــ والتي أصبح بعضها كمسلمات لا ينبغي مناقشتها وليس لك الا اتباع ما تامر به .. والسلام ـــ حاجز يقف في طريق الابداع ينبغي هدمه أولا، أم يكفي عبوره أو تسلقه مهما بلغت المشقة حداّ ؟.
كثير من التساؤلات قد تغيب عنها الإجابة هنا. لكن ما يهمني هنا، أي ما سأتناوله، كمثال عن هذا الإبداع أو الموهبة هو الشعر، وأجدني كلما أقترب أضع الشاعر تارة بعيدا عن الأخلاق والقيم وتارة معها، فأجده مرة شاعرا ملتزما يحمل هموم شعبه ووطنه والقضايا النبيلة ، ومرة أخرى أجده ملازما للّهو والعبث والمجون، وكلاهما هنا ــ على تناقضهما ــ شاعران يمجدهما المتابعون بشغف من المتلقين والأدباء والناقدين.
التفاصيل مخدع الشياطين
يضع البعض ذلك النتاج على منضدة النقد والتقييم كما يضع الطبيب الشرعي جثة هامدة على سرير التشريح، ويبدأ بتقصي الإجابات عن أسئلة لا تتعلق إلا بتلك الجثة الميتة، ليغيب تماما السؤال عن روحها وعما فعلت تلك الجثة عندما كانت حية ترزق، لأن النقد هنا علما ليس خاضعا للقواعد الأخلاقية والدينية ، فهو يحاكم النص لا صاحبه ، فيترك كل أثر للشاعر خارج النص لكاتب السيرة والمؤرخ الذي يمكنه ذكر مزايا وعيوب تلك الشخصية وأخلاقياتها ومواقفها دون المرور مثلا بما كان يضمره ذلك الشاعر لزملائه من حقد أو حسد وما يرتكبه من جرائم ، وبنظرة خاطفة سنرى ان حجم الأنا المتضخمة والنرجسية والابتذال كانت غالبا وسيلة للصعود والتسلق السريع إلى منصة الشعر والاماكن التي تطمح إليها تلك الأنا المتعالية من مجد وصيت، وإن منظر محاربة شاعر آخر أو اسقاطه في أي هوّة قريبة من المنصة يصبح أمرا مألوفا تراه في كل ملتقى ومهرجان وأمسية من خلال همس اللؤماء والحاسدين من الحضور وما يعقبها من طروحات فارغة لا تستند لأية حجّة أو منهج ولا يراد منها سوى التباهي وقذف الآخر والاضرار به ، وإن أغلب هذه الهجمات الشرسة تتخذ أغلب الأحيان شكل ائتلاف جمعي لتعطي شرعية لطرح ما قد يقال، ولتعكس وجه التآمر الخفي حول فلان أو علّان من الشعراء المبدعين بتدبير أو دون تدبير مسبق، فالعقل الجمعي المنحرف في هذه الاوساط كما يصفه علماء النفس والاجتماع سريع التاثر والاستجابة ولا سيما عند ادنى احساس بالخطر أوعند اقتراب مغنم ما. وأن أقرب ما يقال عن هؤلاء أنهم بعيدون عن الأخلاق والمروءة، وما ذلك سوى غيّ، وهناك من أوقعهم بتلك الغواية كالشيطان أو أحد خدمه المتهافتين، كالرماد في حريق، قد لاتصدقون ما أقول ، فترى من رأى الشيطان وهو يدخل محافلنا الادبية وامسياتنا الشعرية ؟ لكن من كشف عنه الحجاب استطاع أن يرى سقط متاع الحفلات الوثنية وهوام موائد الشر التي كان يقيمها العفالقة مع الكورس الذي كان ينفخ بالعجل اله السكارى والمتزلفين لحد انمساخهم الى ألسنة للّعق والفحيح وهم ينسلّون بيننا لينسلون هذا وذاك بين أولئك وأولئك ، يجعلون من أنفسهم محورا بأي شكل من الأشكال ليستطيعوا النفاذ بقوة وبسرعة والتواجد في كل مكان وفي آن معا متجاذبين يدع بعضهم بعضا ويشد، للتأثير بأكبر عدد ممكن لتشكيل جبهة رأي كالعصابات بألوان وأشكال جذّابة لتكون مستعدة للانقضاض بوحشية على أي خصم أو صديق اذا اقتضى الامر والمصلحة ، مع الاستفادة من أي خلاف أو تنافس شريف قد يحصل بين الاخوة لاستثماره لخلق جو من البغضاء والفرقة والانكفاء بينهم لتطول الوصاية بالمنفى ولعزل كل من فهم اللعبة قبل أن يصل لمرحلة التصدي ، فتلك عصاه وهو يهش بها كمخلب ذئب غادر..
انقضاض النفوذ على الوعي
تؤازر هذا المنهج وتدعمه توجهات السلطة الحاكمة ومتبنياتها السياسية الفكرية والمادية، وهي ترى هذا الوسط من أهل الأدب والثقافة والإبداع مصدر خطر ومكمن رأي مخالف قوي له القدرة على تقويض أحلامها وتسفيه أفكارها.. بعد علم منها انها لا تغرس سوى الجهل والضلالة والفساد، فيصبح منبر الخطيب والواعظ هواء في شبك، فكلما ازدادت تعرية الكفر والفجور والظلم ازداد من يقف خلف هذا النهج التعنت والطغيان والفساد، فيكون بعد هذا خراب مبين في قيم المجتمع وانحسار في حضور تلك المجالس وضعف الإيمان بها.. بسب عدم الجدوى والتمادي الفاحش في الغي والجريمة، فيسقط الوعي في دوامة الشعارات والهتافات والوعود التي تفتقر للجدوى والحلول، رغم تناقض مصدر الخطابين، الصالح والطالح.
نشرت في الولاية العدد 115