الأخلاق والمنهج في بعض فوائد كتابة البحث


م.م. علي محمد عبد الحسين أبو شبع

الأخلاق هي جوهرة عقل الباحث وقد تظهر طبيعة أخلاق الباحث من حيث العلاقة بينه وبين المشرف, وكذلك تظهر في المناقشة في الدفاع عن البحث وبعد المناقشة, فالأخلاق تكون شخصية ناجحة للباحث, وذكر الدكتور هادي الخزرجي في (قضايا في منهج البحث) «يظهر أنْ طبيعة علاقة الأخلاق بالعلم مشابه بنحو ما لعلاقة المنهج بالعلم, فكلاهما لا يُمكن الاستغناء عنه حين البدء بطلب العلم وتعليمه, نحو قوله تعالى: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾(آلـ عمران: 159), فالآية تُقدم لنا الدرس الأخلاقي بترك الفظاظة, وغلظة القلب» والتحول بدلا من ذلك نحو العفو, والاستغفار, فكل ما في الآية يلزم الباحث بهذه الضوابط الأخلاقية؛ وصولا إلى منهج طلب الشورى, وفيه تجتمع الأخلاق الحسنة مع تطبيق المنهج الصحيح في أمر أو أمور متجمعة.

الأخلاق والمنهج
كلا الأمرين: الأخلاق والمنهج, من نتائج العالم نفسه, فإن التلازم بين العلم والأخلاق تلازم كبير؛ فالأخلاق هي علم من العلوم, وكل العلوم في مسار اكتسابها وتعليمها لها علاقة بالأخلاق, وكذلك فإن للأخلاق علاقة بغايات العلم, بل تكاد أنْ تكون الأخلاق من الغايات الكبرى في حياة الإنسانية عبر مسار العلم والمعرفة؛ فالأخلاق غاية دينية علمية, إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق, وفي ذلك كله, يكون المنهج التنظيمي مسيطراً على كل التفاصيل.
بل إنْ لمعرفة المنهج الأخلاقي وارتباطه بالعلم في كل خطوة يخطوها الباحث أهمية كبيرة, فمع مثلاً إمكان الشروع في تعلم الذات, لكن القرآن الكريم يُقدم منهج المشاورة, نحو قوله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾(آلـ عمران: 159), وأنْ العلم شيء والأخلاق شيء آخر, وأنْ لكل منها نظاماً تطورياً خاصاً به, يختلف عن نظام تطور صنوه اختلافاً كبيراً, ولذلك؛ إذا ما لا حظنا أن الأخلاق آخذة في الانحطاط – في الوقت الذي لا تزال العلوم مستمرة في التقدم- فلا يحق لنا أن نستدل من ذلك على أنْ تقدم العلوم كان السبب الموجب لانحطاط الأخلاق؛ لكن تقدم العلوم في جانب كبير لم يكن لولا الالتفات إلى أهمية غايات الجانب الأخلاقي, وأما الأُمور التي ترتبط بالأخلاق فهي:
شخصية الباحث
الباحث هو المُفتش عن حقيقة ما, أو هو الَّذي يسعى للكشف عن ظاهرة مجهولة, أو عالم مغمور, أو جانب من تراثٍ أدبي, أو علمي, أو حضاري, لم يَرَ النور, وحتَّى يُوفَّق الباحث في مهمته الشّاقة. يُفْترضُ أنْ تتوفر فيه المميزات التالية:
الصدق والأمانة: فلا يُدوّن الباحث آراء الآخرين ويدّعيها لنفسه, أو يقتبسها, ولا يُشير إلى مصادرها. ولا يحكم وفقاً لعقيدته أو هواه, بل وفقاّ للحقيقة, واستناداً على الأدلة والبراهين. ولا يُسفه آراء الآخرين وإنْ كانت خاطئة, فما نقرّ بصحته اليوم, قد يُحْكمُ عليه بالخطأ في الغد, وقد نرى الأمر من زاوية, ويراه الآخرون من زاوية أُخرى مُناقضة.
خير الكلام ما قل ودل: فلا يذكر الباحث العبارات البديهية, فيذكر المهم والجديد والمفهوم وتحاشي المبالغات, وأنْ يقصد كل ما يُكتب فلا مجال للرسالة بأُمور لا تشمل البحث.
تحاشي الاسلوب التّهكمي وعبارات السُّخرية: ليس في الرسالة مجال لمثل هذا اللون من التّعبير وإنْ يتجنب الباحث بقدر الإمكان كل ما سيفتح عليه باباً للخلاف.
الدقة والتركيز: على الباحث عدم وقوعه بالأخطاء النحوية, و الإملائية, ومُراعات علامات التَّرقيم, والفقرات الاخرى, حتى لا يُضعف قيمة الرسالة وما يتيح الباحث للمناقشين فرصة للهجوم عليه والتقليل من قيمة جهوده.
الشك واليقين: ومن صفات الباحث الحقيقي أنْ يتخذ الشّكَّ طريقاً إلى اليقين, فقديماً قال الجاحظ: «اعرف مواضع الشّك وحالاتها المُوجبة له لتعرف بها مواضع اليقين…».
ما بين الأسطر: ومن صفات الباحث الناجح القُدرة على قراءة <ما بين الأسطر>, إذْ كثيراً ما يضطر كاتب إلى عدم التّصريح بكلّ ما في ذهنه, فيلجأ إلى الرّمز, أو إلى إخفاء أفكاره بين السّطور. فإذا امتلك الباحث مثل هذه القُدرة فإنه موهوب حقاً؛ لأنّه لم يقنع بظاهر الكلام, بل تسلّل إلى خفاياه, وتصدى لحل رموزه.
الدراسة الجيدة: قبل الشّروع بالاختيار للموضوع على الباحث الدراسة الجيدة وكثرة المقابلات مع أهل العلم لاسيما العلماء وأخذ الآراء والملاحظات منهم.
التواضع والبعد عن الغرور: على الباحث أن يتجنب التكبر والغرور والاختيال, ويذكر أن الله هو الكبير, وهو الذي أقدره هذه القدرة على انجاز مثل هذا العمل.
صبوراً على مشقات البحث: أنْ يكون الباحث, قادراً على الصّمود في وجه العقبات, ولا يشعر بالملل, أو يثير غضباً عند مواجهته لمشكلة في البحث أو غير ذلك والتواصل بمسيرة البحث بقدر الإمكان وعدم التخاذل والبرود.
العلاقة بين الطالب والمشرف
على الباحث أنْ يُراعي كل الظروف بما يحصل بينه وبين المشرف فكل مشرف يختلف عن الآخر في طريقة تعاملهُ مع الباحث, ولا يظن الباحث المشرف مسؤول عنه في الدفاع عن البحث في المناقشة, على الباحث أن يضع أمامه كل الاحتمالات, احتمال ان يكون المشرف في المناقشة يرى الباحث انه مناقش وليس مشرف, ويقول المثل (تحزم للذئب بحزام الأسد), وعلى الباحث أنْ يسير على ما يأتي:
أن يتصل الباحث بالمشرف من حيث الزيارات والاتصالات الهاتفية والإلكترونية, من حيث التعديل والأسئلة, لكن في نفس الوقت أنْ لا يُثقل الباحث على المشرف من حيث الزيارات المفاجئة, والاتصالات في الأوقات غير المناسبة.
إن لا يهدر الباحث الوقت فأن اليوم المضاع قد يؤخر سنة, على الباحث أنْ يستثمر الوقت الثمين.
يجب عند زيارة الباحث للمشرف أن لا يُبدّد وقت الزيارات بأحاديث جانبية لا علاقة لها بالموضوع, يجب على الباحث أن يستثمر الوقت إلا إذا كان المشرف قد ذهب إلى أُمور أُخرى ليستلطف الجو حتى لا يشعر الباحث بالملل.
مراعات ظروف المشرف, فان شاهد الباحث ظرفا ما عند المشرف قد تشغله فعليه الصبر والتأني, ولا يجعل الباحث كل اعتماده على المشرف فقط, ولا بأس في أن يسأل أو يستشير غيره إذا استعصت عليه حالة من هذه الحالات, ويأخذ بآرائهم وتوجيهاتهم.
علاقة الأب بابنه
العلاقة بين المشرف والطّالب هي علاقة الأب وابنه, وإذا كُنّا أشرنا إلى أنْ الطّالب هو المسؤول عن بحثة, فأنّ هذا لا يعفي الأُستاذ المشرف من المسؤولية إذا جاء مُستوى بحث الطّالب مُتدنياً, وهذا يسوقنا إلى تسجيل ما يلي:
إنّ الأُستاذ المُشرف يفترض أنْ يكُون المثل الأعلى لطالبه في الدّقة وضبط المواعيد, واحترام حرية الفكر والرّأي؛ لأنّ ذلك يكسب الطّالب ثقة بأُستاذه, وبنفسه, ويرفده بالقوّة والرّغبة في المُثابرة وإتمام العمل.
لا يُفْترض بالأُستاذ المُشرف أنْ يفرض على الطّالب آراء الشّخصية مهما كانت مُحقة, لكن عليه أنْ يُزوّده بتلك الآراء, علّه ينتفع بها, أو بجُزء منها وليس من الصّواب أنْ يُخْرج الأُستاذ المُشرف الرّسائل التي يشرف عليها مصُبوغة بروحه, عبقةً بأنفاسه, بل أنْ يشرف على إخراجها مصُبوغة بروح الباحث وجُهده.
إذا كان الأُستاذ المُشرف غير مسؤول عن آراء الطّالب الشّخصية وقناعاته, فإنّه من غير شك مسؤول عن مُستوى الرسالة, وخطّتها العامّة, وأُسلوبها فلا ينبغي أنْ يسمح بطباعة البحث وتقديمه للمُناقشة ألاّ بعد الإطمئنان على سلامتها من الأخطاء الفكرية والمنهجية القاتلة.
رد الباحث على كاتب
المراد –هنا- الجواب لإشكال علمي أشكل به على فكرةٍ ما, إتهام علمي وُجّهَ لمعتقدٍ ما, فإذا وجد الباحث عند بحثه, في كتاب خللاً في سبك العبارة, مثلاً في تفسير آية أو مصطلح لغوي أو غير ذلك, وأراد أن يرد على الكاتب, يرد عليه بدليل رصين. مثال نحو قوله تعالى: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾(النمل: 20), فالله جل جلاله يستفهم متعجباً على لسان سليمان (عليه السلام) الرد, نظرية الباحث: وهنا يبدو لي أن الكاتب قد خانه التعبير اللفظي بقوله: أن الله جل وعلا هو الذي يستفهم على لسان سليمان (عليه السلام), وهذا الكلام غير مقبول, والدليل: حيث إن الله بكل شيء عليم، والذي كان يستفهم هو نبي الله سليمان (عليه السلام) بقوله ﴿مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ﴾ عن عدم رؤيته للهدهد عندما جمعهم لأمر من الأمور.
وأنْ منهج الضوابط الأخلاقية يحتم على الباحث أنْ يكون منصفاً لغيره, في الأخذ منه وفي الرد عليه, وكذلك أنْ يكون متسلّحاً بالدليل الذي يُثبت عنده, وأن يكون في الوقت نفسه مرناً كفاية لتقبل الرأي الآخر, بل تحويل عن الاعتقاد واليقين السابق, عند ورود دليل جديد له تأثير إقناعي أكبر وأصوب, فهناك, خطأ شائع بأن نتائج البحوث هي نتائج مطلقة, وأن الأحكام التي نخرج بها من البحوث صادقة, فاليقين ليس ممكناً في البحوث التربوية والاجتماعية وكذلك العلوم الطبيعية, وكل ما هو ممكن فهو المعرفة الاحتمالية ولكن, نسبة اليقين أكبر من نسبة التوهم والاحتمالات؛ وإلا لما تقدم العلم ونضج الفكر الإنساني. إن فائدة وضع احتمال الخطأ والصواب, في عملية التعلم والحوار لهي ضمن الشرط الأخلاقي؛ إذ ينبغي عدم التسرع في إطلاق الأحكام اليقينية إلا بعد التثبت والنقاش والتحليل.
نشرت في الولاية العدد 120

مقالات ذات صله