في قَصـَصـِهِمْ عـِبـْرَةٌ


مسلم القزويني

أطلق العرب قديما كلمة القصة على ما كان يسمى بالأسطورة وأحاديث السمر والخبر وحتى الخرافة ، وان أقدم القصص تلك التي جاء بها القرآن الكريم عبر آياته وسوره البينات ولا سيما عمّا ما مضى من أحداث الأمم القديمة ولا سيما مع انبيائها وطواغيتها ، فكانت ترسل أما موعظة وعبرة أو إنذارا يبين سوء عاقبة الكافرين والظالمين .
وقد كانت قصص وأخبار النضر بن الحارث انموذجا لقصص العرب في الجاهلية، حتى أنزلت القصص القرآنية فعني بها المسلمون واهتموا بتفسيرها وتكملة سردها وأحداثها عبر ما بينه رسول الله وآل بيته الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم من اخبار تلك الأمم وما جرى مع انبيائها ومصلحيها ، كذلك عبر ما جاء من تلك القصص والأحداث في التوراة والانجيل وما تناقلته ألسنة وألباب الحكمة الموروثة وجدل الفلاسفة الأولين .
القصص الديني
وبهذا تكون الباب قد فتحت للقصص الديني الذي أهتمت به الدولة آنذاك فضلا عن الشعر والشعراء كونه أداة يمكن ان تستخدم للوعظ والارشاد وبث الحكمة والفائدة كذلك لما لها من قدرة على بث روح التضحية والفداء في أيام الحروب والنزاعات فكان في بعض تلك البلدان الاسلامية للقصاصين أجرا يتقاضونه عن عملهم هذا ، حتى ان بعض المساجد كانت تفتح لهم كما كان من وقت قريب تفتح فيه المقاهي للحكواتية وروات السير .
أدى هذا الاهتمام المتزايد بالقصة ابان العصر العباسي الى ظهور عدد من الكتب المعنية بهذا الأمر فضلا عن المترجم للعربية ككتاب «كليلة ودمنة» لابن المقفع وقد استطاع ابن النديم ان يدون ويحصي منها الكثير ، ثم ظهرت المقامات ، وقصص ألف ليلة وليلة ، حتى عصرنا هذا الذي تطورت فيه القصة إلى مستوى القصة الغربية .
القصص القصيرة
اكتسبت القصة اليوم شروطها الفنية السردية محققة بذلك اهدافها وأغراضها التعليمية والمعرفية والفنية ، ووصل بها التطور الحسي والفني الى النمو والتفرع لتخرج لنا من تحت القصة والحكاية ، القصة القصيرة ، والتي هي عبارة عن سرد قصصي درامي قصير نسبيًا يحدث غالبا لشخص وموقف وزمن واحد في تكامل محبوك للصراع الدرامي في توتر هو من عناصرها البنائية الفنية.
ان ظهور أشكال مختلفة للقصة القصيرة عبر التاريخ، عكس هذا الجنس الأدبي تأثره بالموروث الحكائي القديم حاملا رسالة تحرر الفرد المستقل في شعوره وانتماءاته وسلوكه وطرق تفكيره مخافة بذلك السرد القصصي والروائي الكلاسيكي.
ويعد ( إدغار آلان بو ) من رواد القصة القصيرة الحديثة في أوربا وقد تبعه الكثيرون أمثال موباسان وزولا وتشيخوف وغيرهم من المئات من كتاب القصة القصيرة ، أما في عالمنا العربي فقد اشتهر زكريا تامر من سوريا ويوسف إدريس من مصر .
ولادة الحكاية
ومن أشكال السرد القصصي كذلك ظهرت ( الحكاية ) والتي وصمت بالتراخي في حبكتها وبساطة طرحها، وكذلك ( الحكاية الشعبية ) التي تنحت في موروث الشعوب ومآثره وأساطيره وغيبياته الموغلة في شؤون الجان والعفاريت والمتقلبة بين طيات السحر والشعوذة ، وأنسنة الكائنات ، الجامدة وغير العاقلة .
وفي كل الأحوال تبتني القصة على عوامل وأركان مهم منها، ( الفكرة ) التي يسعى الكاتب الى اظهارها في قصته ومن خلال شخوصها وأفكارهم ، و( الحــدث )، في محور الوقائع الحاصلة والصراعات في أبعاده الزمكانية والعللية المتخلل لحوار وافعال الشخوص ، و( الحبكة ) ، أي الحوادث المترابطة وكيفيتها وتداخلها الموضوعي والذاتي داخليا وخارجيا بشكل متماسك ، وقدرتها على الإقناع والانفعال لدى المتلقي .
ومن عوامل القصة ( الشخوص ) الذين يأخذهم القاص من الحياة بعد ان يستقرئ مديات أثرهم فيها حينما يستعرض أبعاد تلك الشخصية الاجتماعية بتحديد المكانة والدور والفعل الاجتماعي ، والجسمانية الذاتية بكل أبعادها وصفاتها ، والنفسية السلوكية وأبعادها المؤثرة حياتيا .
وتعد ( البيئة ) كذلك من العناصر المهمة التي تبتني عليها القصة فهي الوسط والوعاء الذي تتراكم وتحيا وتتفاعل فيه الأحداث والشخصيات أي في زمكانها المرسوم في تلك القصة .
السيرة الشعبية والمقامة
ومن أنساق القص العربي ما جاء في ( السيرة الشعبية) كسيرة ( عنترة بن شداد ) وسيرة ( سيف بن ذي يزن ) وسيرة ( بني هلال )….الخ ، وهي قصص مأخوذة من أحداث تاريخية حصلت عند القبائل والشخصيات العربية تظهر بطولات وقيم تلك الشخصيات والقبائل بشكل يدعو للفخر والاعتزاز . وما زاد في أثر واشتهار تلك السير هو القائها على العوام في المقاهي او الأماكن المخصصة لهم من قبل العامة عبر الراوي الذي لطالما كان متمكنا في فن الالقاء الذي يضفي عليه مما يحفظ من شعر ونثر ولباقة متميزة تشد المتلقي اليه وتبهره .
أما ( المقامة ) فهي نسق أدبي جمع بين النثر والشعر كما تعد النواة في بناء المسرح العربي الفكاهي ، كان من أشهرها كتاب مؤسس هذا الفن ( المقامات ) بديع الزمان الهمذاني ومقامات الحريري . وحوت هذه المقامات على الكثير من الأغراض المفيدة في اللغة والأدب والثقافة والتاريخ والحكمة والطريفة النادرة والرقة في التعبير توشى كلامها بالسجع وموسيقاه الشعرية العذبة ، كما تضمنت كثير من النقد اللاذع للعقائد فضلا عن حملها الكثير من الثقافة الاسلامية الواردة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، فكانت هذه المقامات مجالس أدب وفن وسمر وعلم وثقافة وشعر وبلاغة وحكمة باسلوب شيق بهيج .
ولأثر هذه المقامات في نفوس المبدعين والمتلقين ولا سيما في العراق وبلاد الأندلس عمد يحيى بن محمود الواسطي الى رسم حكايات مقامات محمد الحريري في اسلوب فن عراقي رفيع سميت مدرسته بـ( المقامات ) .
نشرت في الولاية العدد 120

مقالات ذات صله