الأثر القرآني في ألفاظ الخطبة الفدكية

م.م. أحمد جاسم ثاني

مما لاشك فيه أن كلام أهل البيت (عليهم السلام) تأثّر بلغة التنزيل أيّما تأثر؛ لأنهم حملة القرآن وعدله وترجمانه، فتميّز كلامهم بالإحكام والبيان كما أُحكمت آيات القرآن، مما أعطاه صفة الخلود، فلا يبلى من كثرة الترديد، بل إن قارئه ليتذوق حلاوة الفصحى وعذوبتها، وإنه ليشعر كما لو أنه سار في طريق مجهول فيفاجأ بمدينة ذات كنوز، مليئة بالذهب والفضة واللؤلؤ والمرجان، فيستبشر فرحاً، ولكن سرعان ما يجد نفسه عاجزاً حيران، من أين يبدأ ؟ وكم بوسعه أن يغترف ؟ فلا حيلة له إلا أن يملأ وعاءه بما يتسع …
وللسيدة الزهراء (عليها السلام) ألفاظ انحدرت كالسيل من أعلى قمة الفصاحة، فسالت أوديةٌ بقدرها، لتمكث في الأرض؛ لأنها مما ينفع الناس، وإذا ما تأملنا فيها وجدنا للقرآن فيها أثراً، وكيف لا يؤثر القرآن في ألفاظها وهي بنت النبوة، وربيبة الوحي؟
ولنتأمل في خطبتها الفدكية وننقب معجمياً عن الألفاظ المقتبسة من القرآن الكريم، فنبيّن معناها اللغوي، ثم نذكر بعض مواضع ورودها في القرآن الكريم؛ ليتضح لنا مدى الأثر القرآني فيها، وندع التراكيب المقتبسة من القرآن على كثرتها؛ لأنها تُدرس بلاغياً تحت مصطلح (التضمين القرآني)، وقد درسها بعض الباحثين، كان أبرزهم الدكتور محمود البستاني في كتابه (أدب فاطمة الزهراء «ع»). ومن هذه الألفاظ:
– لفظة (سبوغ) في افتتاح الخطبة بحمد الله تعالى: ((الحمد لله على ما أنعم وله الشكر على ما ألهم والثناء بما قدم من عموم نعم ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها))، وتدل هذه اللفظة في اللغة على «السعة»، جاء في لسان العرب: ((سَبَغَ الشيءُ يَسْبُغُ سُبُوغاً: طالَ إلى الأَرض واتَّسَعَ … وسَبَغَتِ النِّعْمةُ تَسْبُغُ، بالضم، سُبُوغاً: اتسعت)). وقد ورد هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾، (لقمان/20).
– ولفظة (جمَّ) في قولها: ((جمَّ عن الإحصاء عددها))، جاء في لسان العرب: ((الجمُّ والجمم: الكثير من كل شيء. ومالٌ جمٌّ: كثير)). وفي القرآن الكريم: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾، (الفجر/20).
– لفظتا (اجتباه) و(اصطفاه) في قولها: ((وأشهد أن أبي محمداً عبده ورسوله اختاره قبل أن أرسله وسمّاه قبل أن اجتباه واصطفاه قبل أن ابتعثه))، ويلتقي اللفظان في المعنى، فكلاهما يدل على الاختيار، جاء في لسان العرب: ((واجتباه أي: اصطفاه. وفي الحديث: أنه اجتباه لنفسه أي: اختاره واصطفاه … واجتبى الشيء اختاره))، وهما من الألفاظ المتكررة في القرآن الكريم، منها قوله تعالى: ﴿فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾، (القلم/50). وكذلك: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾، (آل عمران/33).
– لفظة (مكنونة) في قولها: ((إذ الخلائق بالغيب مكنونة))، والمكنون في اللغة المستور: وفي اللسان: ((من أَكنَنْتُ وكَنَنْتُ الشيءَ سَتْرتُه وصُنْتُه من الشمس وأَكنَنْتُه في نفسي أَسْرَرْتُه))، وفي القرآن تكررت هذه المفردة (بلفظ مكنون) في أربعة مواضع وكلها في موارد الخير، كوصف قاصرات الطرف والحور العين، وغلمان الجنة، فضلاً عن وصف القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ﴾، (الواقعة/77-78).
– لفظة (بصائر) في وصفها للقرآن الكريم: ((بيّنةٌ بصائره))، وبصائر جمع بصيرة، ((والبَصِيرَةُ الحجةُ والاستبصار في الشيء))، وقد ورد هذا اللفظ في القرآن في عدة مواضع، وأكثرها لوصف القرآن، منها قوله تعالى: ﴿هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ﴾، (الجاثية/20).
– لفظة (شطط) في قولها عن نفسها (عليها السلام): ((ولا أفعل ما أفعل شطَطَاً))، والشطَط في اللغة: البعد عن الحق، ومجاوزة القدر في كل شيء، وفي القرآن ورد هذا اللفظ بهذا المعنى مرتين، منها: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا﴾، (الجن/4).
– لفظة (السِنَة) في قولها: ((يا معشر النقيبة وأعضاد الملة وحضنة الإسلام ما هذه الغميزةُ في حقي والسِنَةُ عن ظلامتي))، والسِنَةُ: ((نعاس يتقدّم النوم، غفوة، نوم قصير))، وهنا جاءت هذه المفردة بالمعنى المجازي، كناية عن غفلة القوم عن حقها، وهي في صدد تأنيبهم، وفي القرآن الكريم وردت مرة واحدة بالمعنى الحقيقي في قوله تعالى: ﴿اللهُ لاَ إِلَهَ إلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾، (البقرة/255).
يتضح مما تقدّم مدى الأثر والتأثر القرآني في خطاب السيدة الزهراء (عليها السلام)، وهو ليس بغريب على سيدة نساء العالمين، بنت النبوة وأمّ الإمامة، عاصرت الوحي ووعته وحفظته، فصار مرجعاً لكل كلمة تنطق بها، فهي من أهل بيت كلامهم نورٌ، وأمرهم رشدٌ، ووصيتهم التقوى.

نشرت في الولاية العدد 126

مقالات ذات صله