عِبَر من سورة الحمد

الشيخ حبيب الكاظمي

سورة الحمد:
لو قلنا: إن سورة الحمد قريبةٌ إلى الاسم الأعظم، لما بالغنا في القول؛ لأنها أعظمُ سورة في القرآن الكريم!.. يقول تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}، فالقرآن في كفة، والسبع المثاني في كفة.. سبعُ آيات تقرأ في الصلاةِ مرتين؛ أي أربع عشرة آية في كل فريضة، ومن لم يستوعب سورة الحمد؛ خسر الكثير في هذهِ الحياة.
{بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.. إن البسملة جزء لا يتجزأ من سور القرآن الكريم، فهي جزء من كل سورة، وهي من أعظم الآيات.. نحنُ في الصلاة الإخفاتية، نخفت في السورة، ولكن عندما يصل الأمر لـ{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}؛ نرفع صوتنا؛ أي يا أيها العالم!.. انتبهوا أن هذهِ آية مهمة من القرآن الكريم، لا يصح حذفها من السور.
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.. الإنسان الذي ليست فيه صفة الرحمة، هذا الإنسان بعيد عن رحمة الله -عز وجل- حتى إذا كان من المصلين ومن الصائمين.. إذا عاشرتَ مؤمناً، وأردتَ أن تتخذهُ: رفيقاً، وصديقاً، وأخاً في الله؛ فانظر إلى قلبهِ المرهف!.. فالذي يرى إنساناً أصيب بحادث سير، وهو ينظر إليه كأنهُ حيوان ضُربَ بسيارة؛ هذا الإنسان غير محمود.. لديه بعض حس مرهف -وهذا شيء طيب- لا يتحمل أن يرى منظر الدم، المؤمن لهُ هذهِ الحالة.. لو أن القيّمين على هيأة الأمم المتحدة، أرادوا أن يختاروا حديثاً من الإسلام، ليكتب في ذلك المبنى العالمي؛ فخيرُ ما يُنقش هذهِ الرواية التي هيَ تُحفة من تُحف الإسلام، ومن مدرسة أهل البيت (ع)، عن الإمام علي (ع): (الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق)؛ يا لهُ من تعبير!.. فالبوذي -مثلا- ليس بمسلم، ولكنهُ نظيرٌ لك في الخلق.. المؤمن لهُ شفقة تَعمّ -ليس فقط البشر- حتى الحيوانات.. فالناس يصفون الإمام (ع) في طريقهِ إلى الحج: بأنه ما ضرب دابتهُ بسوط.. هكذا كانت رأفتهم بالحيوانات؛ فضلاً عن بني آدم.
إن الإنسان الذي لا يرحم، لا يتوقع شيئا، ولو كان من مقيمي الليل، وذلك لأنه إنسان قاسي القلب: لا يرحم زوجته، ولا يرحمُ ولده، ولا يتأثر بقضايا المسلمين.. بعضهم يتعمد عدم النظر إلى التلفاز، لأنه لا يتحمل مناظر الظلمِ حتى في غير المسلمين؛ بارك الله في هذهِ القلوب الطيبة الرحيمة!.. ولو أن الغرب من غير المسلمين عرفوا هذهِ الحقيقة: إن الناس صنفان لا ثالث لهما: أخٌ في الله، أو نظيرٌ لكَ في الخلق؛ لالتحقوا بالإسلام.. فالرحمة من الصفات الإلهية الكبيرة.
إن بني آدم موجود عزيز، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (أتزعمُ أنكَ جرمٌ صغير، وفيكَ انطوى العالم الأكبرُ)، وجاء في الحديث القدسي: (كنت كنزا مخفياً، فأحببت أن أعرف؛ فخلقت الخلق لكي اُعرف)(بحار الأنوار: ٨٤/١٩٩).. الله -عز وجل- خلق الوجود من أجل الإنسان، فالمجرات والكواكب كلها في خدمة بني آدم {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ(الجاثية: 13).. المؤمن لهُ القابلية، لا لأن يترك المعاصي والذنوب، نحنُ هذهِ الأيام عندما نقول: فُلان متدين؛ أي: أنه يصلي ويصوم؛ هذا هو سقف التدين.. في حين أن الصلاة والصوم، هي ألف باء الدين: فالإنسان الذي يصلي ويصوم، هذا إنسان في المرحلة الابتدائية من الدين.. والمرحلة المتوسطة، هي أن يترك المعاصي والذنوب.. أما المرحلة الأرقى، هي أن يصل الإنسان إلى درجةٍ، يتخلقُ بأخلاق الله عزَ وجل.. فالنبي (صلى الله عليه وآله) كانَ خُلقهُ القُرآن، والقُرآن كلامُ رب العالمين.. هنالكَ صفات مشتركة بين الله وبينَ العبد: الخالقية، والفاطرية؛ هذهِ صفة مختصة بالله عزَ وجل.. ولكن هناك صفات لله -عزَ وجل- ينبغي للمؤمن أن يتصف بها، بالقدر المتيسر لبني آدم، وبحجم بشريته.. ومن هذه الصفات الإلهية الرحمة، لذا ينبغي لنا أن نتشبه بهذهِ الصفة.
عندما ينظر المرء بمرآة، إذا كانت هذه المرآة صافية، ومقابل الوجه، ولا غُبارَ عليها، وهناك إضاءة كافية؛ فإنه يرى كُل الوجه، وما دامت المرآة قد عكست جُزءاً، فإنها تعكس الأجزاء الأُخر.. كذلك إذا صارَ القلب مرآة لصفةٍ من الصفات الإلهية، فإن الإنسان يصير مظهراً للرحمة الإلهية، وللشفقة، والرأفة، والحنان، والكرم، والعطاء.. عندها ربُ العالمين لا يبخلُ عليه، بل يُضفي عليه باقي صفاتهِ الأُخرى تفضلاً منه.. مثلا: عندما يصبح الإنسان كريماً، أي أنه يتشبه بالله -عزَ وجل- في كرمهِ؛ فإن صلاته تصبح صلاة خاشعة، ربُ العالمين يتجلى لهُ في صلاته.. على الرغم من أنه لم يدخل في دورةٍ حولَ الصلاة الخاشعة، ولكن رب العالمين يريه شيئاً من جلاله وجمالهِ.. هو تعامل مع الرب في صفة الكرم، وربُ العالمين تعاملَ معهُ في صفة الجلال والجمال.. وبعد مدة يُعطى صفة بعد صفة، وإذا بهِ يُصبح إنساناً ربانياً.. والرباني هو ذلكَ الإنسان الذي ظهرت فيهِ الصفات الإلهية.. بعض العلماء الكبار، عاشرَ أحد المجتهدين، فقال: لم نرَ منهُ مكروهاً أبداً.. ليست القضية قضية حرام، بل المكروه لم يُرَ منه، ولعله كان يقوم بكل المستحبات.
إن شفقة المؤمن للجميع، ولكنها تكون مضاعفة حينما نوجه لمؤمن مشابه له.. لذا الإنسان يغتنم الفرصة إذا جاءه مؤمن فقير، مؤمن بالمعنى الخاص: يُقيم الليل، وآثار السجود على وجهه، تقيا، ورعا؛ ولكن ظروف الحياة جعلتهُ في حالة حرجة.. لذا فإنه يبادر، لأن يضفي عليهِ ما أمكنه من عناية.. جسمهُ مريض، وجيبهُ فارغ؛ ولكن قلبهُ عرش الرحمن.. نعم المؤمن رحيمٌ بهذهِ الوجوه الطيبة التي (يحسبهم الجاهل أغنياءَ من التعفف).. هنيئاً لمن أحسنَ إلى فقيرٍ يتيمٍ من ذُرية رسول الله (صلى الله عليه واله)، لأن كُل الصفات مجتمعةٌ فيه، فينطبق عليه الحديث الشريف: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة؛ وقرب بين إصبعيه السبابة والوسطى)(مستدرك الوسائل: 2/474)!..
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.. الحمد آخر ما يقولهُ الإنسان بالجنة، {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.. أحدنا يخجل من نفسه، الرعدُ والبرقُ في السماء يسبح لله {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ}، وكل ما في السموات والأرض تسبح ربها بنص القرآن الكريم: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}؛ فلا بد أن نقف قليلا ونقول: أسبح بحمدك.. فمن ساعات الإستجابة ساعة المطر، إذا سمعَ الإنسان صوت الرعدِ والبرق والمطر، عليه أن يجلس في مصلاه، ويعبد الله -عز وجل- ولو للحظات؛ فإنها ساعةٌ من ساعات الإستجابة.. روي عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «تفتّح أبواب السماء عند نزول الغيث، وعند الزحف، وعند الأَذان، وعند قراءة القرآن، ومع زوال الشمس، وعند طلوع الفجر»(بحار الأنوار: 93/353). وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «اطلبوا الدعاء في أربع ساعات: عند هبوب الرياح، وزوال الأَفياء، ونزول القطر، وأول قطرة من دم القتيل المؤمن؛ فإنّ أبواب السماء تفتّح عند هذه الأشياء»(مستدرك الوسائلالكافي: 2/476).
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}.. هذه الآية تربط الإنسان بعرصات القيامة.. فالذي يعيش في هذهِ الدنيا، وعينهُ على الآخرة؛ هذا الإنسان يستقيم في مشيته.. والإنسان حينما يترك المنكر، يحس بحلاوة الإيمان!.. فالذي يغضُّ بصره، يرى في قلبه طاقةً عجيبة.. وإذا غض بصره مرات بعد ذلك؛ فإنه بعدَ مدة يُصبح بطلاً من الأبطال..
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.. عندما يقرأ المصلي الفاتحة، وإذا به يترقى ويترقى كأنه ركب طائرةً، حملته من الأرض وطارت به إلى أن وصل إلى سدرة المنتهى، فيتكلم مع رب العالمين ويقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.. التفاتٌ من الغيبةِ إلى الخطاب، كأنه الآن أصبح مؤهلاً ليُناجي رب العالمين بالخطاب، مع فارق التشبيه؛ كأنه عرجَ كالنبي الأعظم (ص).. فالنبيُ (ص) عرجَ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثُمَ ذهبَ وذهب {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}.. المعراجُ مصغرهُ في الصلوات اليومية، فالصلاةُ معراج المؤمن.
إذن، الإنسان في سورة الحمد يترقى.. فمن آية {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} آيات قليلة، ولكنْ بالسير الأنفسي السفر سريع، كسرعة البرق أو الضوء.. حيث أن سرعة الضوء ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية الواحدة، أما سرعة الأرواح، فلا تُقاسُ بالضوءُ والصوت.. إنما بلحظات وإذا هو في مقعدِ صدقٍ عندَ مليكٍ مقتدر، يقول: إلهي!.. {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ أي الآن أحبُ أن أتحدث معكَ مباشرةً.. ولكن يا لها من دعوى، تحتاج إلى استغفار، يقول الفقيه في أرجوزته:
تلهج في إياك نستعين *** وأنت غير الله تستعين
نحن نلهج بـ{إِيَّاكَ نَعْبُد وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}؛ ولكن في القلبِ هُنالكَ أصنام معبودة.. وفرقٌ بين نعبدك وبينَ نستعينك!.. يا ليت الآية كانت هكذا: نعبدكَ ونستعينك، فإن قيل للإنسان: أنت كاذب في ادعائك هذا، لأنك تعبد غير الله، تعبد هواك، وتعبد زوجتك، و…الخ.. فيقول: يا ربِ، أنا قلت: أعبدكَ وأستعينُ بك، وما نفيت عن غيركَ العبادة والإستعانة، ولكن ماذا نعمل بـ{إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؟.. أي حصراً نعبدكَ، يا لها من دعوى؟!.. ولهذا هناك جواب آخر يوم القيامة: إن عاتبك رب العالمين على هذا الادعاء، فقل: يا ربِ، ما كنتُ كاذباً، أنا قرأت القرآن، ولم أكن في مقام الإدعاء؛ وهو الأحوط.. بعض العلماء يقول: اقرأ الحمد بعنوان القراءة لا بعنوان الدعاء، وإلا فأنتَ لم تقرأ سورة الحمد.. إذن، هذا مَهربٌ من المهارب.. نحنُ في مقام قراءة القرآن، لسنا في مقام الإدعاء.. هذا الادعاء للنبي وآل النبي {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
لماذا لم يقل: (نعبدكَ) أو (أعبدك)، بل قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}؟.. كأنَ العبد يستقل عبادته؛ أي يا رب، من أنا وما عبادتي؟.. فرقٌ بين أن تخاطب الملك بـ(إياكَ أُطيع) وبين أن تقول: (إياكَ نطيع).. فالعبارة الأخيرة بصيغة الجمع، أي نحنُ جماعة، وأنا ضائع بين هؤلاء، ليست لي شخصية مستقلة، ولا آنية؛ فأنا عبدٌ مندكٌ في جموع المؤمنين.

نشرت في الولاية العدد 127

مقالات ذات صله