وَقَفَات في تَقوِيمِ الأداءِ الإقرائي لِلكِتابِ العَزيز

الأستاذ حسين حيدر الفحام

ما أن تلقى رسول الله (صلى الله عليه وآله) القرآن، كلام الله وكتابه من أمين الوحي مرتلاً، أمر (صلى الله عليه وآله) بترتيله صوتاً وأداءً، ونهى عن التعجّل فيه حرصاً منه على تبيلغ التنزيل تلقيناً وتبييناً بمنتهى الأمانة والإجادة فظل صوته الكريم صادحاً بين أصحابه وأتباعه والسائرين على نهجه نحواً من ثلاث وعشرين عاماً يبلّغهم آيات الله ويعلّمهم كيفيات إجادة قراءتها والنطق بها على الصورة الصحيحة بكل ذوق وإيقاع وإرهاف، فكانوا يتناقلون آياته من لسانه الكريم بغاية الدقّة والضبط والتأمُّل في مضامينها، ولذلك كان الرسول (صلى الله عليه وآله) يشافه قومه بآي التنزيل مباشرة فيقع في نفوسهم الموقع المستحوّذ برغم عنادهم وعدائهم حتى بدتِ الحاجة الى تدوين ضوابط نطقها بكل موسوعيّة وإيضاح.

القرآن الكريم سيد الكلام
فكلّما نزلت آيات القرآن رُتّلت الفاظه بأعذب ما يكون وبغاية الإتقان وروعة التحسين وبما ينسجم مع طبيعة نسقه الجميل الأخّاذ، مؤتمرين بأمره سبحانه (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) (المزمل/4)، ترتيلاً يشدُّ النفوس ويستهوي القلوب والأسماع بقراءةٍ عذبةٍ، لطيفةٍ لاتعسُّف ولا تكلُّف ولا تصنّع
ولا تنطّع فيها ولاتخرج عن طباع العرب وكلام الفصحاء بمنتهى التمهُّل والتدبُّر والتفكُّر والأستنباط صيانة له حتّى لايجد اللحن والتغيير والتعويج إليه سبيلاً (قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) (الزمر/28)، فبرع في أداء ما وجب عليهم من أحكام التلاوة كثير من الصحابة والتابعين الأفذاذ، فما من صغيرة وكبيرة في أدائهم إلاّ طبّقوها، وما من شاردةٍ وواردةٍ إلاّ هذّبوا تلفّظها برياضة الألسن والقراءة المجوّدة التي تتوائم مع النغمة وتتساوق مع اللحن الجميل.
فأتى القرآن الكريم بحسن جماله وبيانه ليزيد العرب ولهجاتهم بلاغة وبياناً، ويحرّك بندائه أفكارهم، ويستيقظ في مشاعرهم وعواطفهم مواطن الذوق والتطهُّر، ويثري بعطائه دنيا الإبداع والتحرُّر، رغم انّ القرآن الكريم لم يكن نظماً أو شعراً ذا تفاعيل موزونة إلاّ أنّهُ ظل سيّد العربيّة وسيّد الكلام وأفضله؛ لأنّه كلام الله عزّ وجلّ الذي لا يقاس بكلام المخلوقين، فعن النبّي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: (هَبَطَ عَلَيَّ جبرائيلُ) (عليه السلام) فقال: (يا مُحمَّد إنَّ لِكُلِّ شَيءٍ سَيّداً.. وسَيّدُ الكَلام العربيّةِ.. وسيّدُ العربيّة القُرآن)(بحار الانوار 61/30) وعنه (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: (فَضلُ القُرآن عَلَى سائِر الكَلَام كَفَضل الله عَلَى خَلقِهِ) م .ن ـ 89/.19
التقيد بالقراءة الصحيحة
فما برحت آياته يصدح بها الصادحون فيستهوون الأسماع ويفتنون الألباب باللحن المهذّب والنغم المقرون بالحشمة والوقار الخالي من البُدَع، والتقيّد التّام بصفات الحروف ومخارجها والصيَغ الصحيحة للإدغامات والغنن والإشمامات والإظهارات ونحو ذلك ممّا رسمته مصادر التلاوة وأصولها لكي تتقن تلاوة القرآن المجيد بسهولة وجزالة إلتزاماً بما أحتذا حذوه علماء الأمّة الأفذاذ ومصنفوا هذا العلم الجليل الذين رسموا صورة التعبيريّة ووضعوا له المصطلحات على نحو ما سمعوه مشافهة من أفصح من نطق بالضّاد وأحسن القرّاء صوتاً وأداءاً أهل البيت
(عليهم السلام) ومن تتلمذ على أيديهم من القرّاء العرب الأوائل ليأخذوا الإتقان لأفصح اللغات وأمضاها قبل تعرّض الألسنة للفساد بمخالطة الأعاجم والتي على إثارها فقدت مبادئ هذا الفن في قنواتنا العلميّة وكادت ان تنعدم في أدائنا الإقرائي عامّة وبمدارسنا الإسلاميّة خاصّة رغم الدور البارز الذي أصبح لعلم التجويد في المجالات اللغويّة والفنيّة وكما تنبّه إليه ممن اشتغلوا فيه وسلكوا مسلكه بعد إن كان مقتصراً في الماضي القريب على التلاوة غير المنظّمة الخالية من الدراسة العلميّة الدقيقة المعتمدة على التحصيل اللغوي والنغمي لكي يعرفوا معاني مايقرأوا ويتفهموا ما في الآي من مقاصد وما فيها من أسرار بلاغيّة وبيانيّة إلاّ ما ندر منهم وشذٍّ عنهم.
ولذلك لانرى في المتعلمين اليوم من يحفظ قدراً حسناً من آي الذكر الحكيم دونما يكون فيه اللحن والإختلال الظاهر الذي يصعب تصحيحه، فضلاً عن الإملاق في إجادة التلاوة وإتقان قواعدها، وتلفّظ الحروف على هيأتها وصيغتها من حيث إعطائها حقّها ومستحقّها ليصير النطق بها طبيعة وسجيّة؛ كون التجويد علم التحكّم والسيطرة باللفظ العربي وصون الحرف الهجائي للقرآن بكل ما يقتضيه من حيث أحوال الحروف العربية أينما وقعت، وفي ماهيّة صفاتها والنطق بها على الصورة الصوتيّة الصحيحة التي نطق بها أكبر الفصحاء العرب وأكثرهم إجادة وفي مقدّمتهم صاحب الرسالة (صلى الله عليه وآله) الذي أمر بتجنّب ما لا يلتزم بالترتيل الذي أمر الله به، والنهي عمّا نهى عنه سبحانه، وخصوصاً تلك التلاوات الشاذّة التي يشوبها التمضيغ والتقعير والتمطيط والتطنين والترعيد والترقيص والتطريب والتحزين والتحريف والترجيع والتمثيل وغيرها ممّا حذّر منه الرسول (صلى الله عليه وآله) وأمر: (اقرِؤوا القُرآنَ بألحانِ العَربِ وأصواتَها، وإيَّاكمُ ولُحوُنَ أهل الفِسْقِ وأهلَ الكَبَائِرِ، فَإنّهُ سَيَجيءُ مِن بَعدِي أقَوامٌ يُرجّعُونَ القُرآنَ ترجيعَ الغِناءِ والنوَّحِ والرهَبانِيّةِ لايَجُوز تراقِيَهُم، قُلوُبُهمُ مَقلُوبَةٌ وَقُلُوب مَن يُعجِبُه شَأنُهُم)(الكافي 2/607).
كما قصّر كثير من المسلمين ـ العامّة منهم والخاصّة ـ في حقّ القرآن الكريم كمعين جامع لأرفع النماذج من التهذيب المطلوب في دنيا الأذواق والكمالات، فأصاب التجويد ما أصاب غيره من شعاب المعرفة، واكتفى العلماء بالجمع والحفظ والترديد حتّى كاد أن يندثر ذلك العلم في عهود الركود والتراجع.
علم التجويد والأداء التقويمي
بيد أنّ علم التجويد وما يتبعه من أداء تقويمي للألسن ومن إلقاء للصوت وفق ضوابطه المرسومة رسم لنا الصورة التعبيريّة لكثير من التلاوات المباركة حتّى أصبحت له مكانة رفيعة في الدراسات الأدبيّة واللسانيّة والصوتيّة ولما يحتاج المقرئ إليه في صقل مهارته وتطوير أدائه، وكي لا تتحجّر الأفهام بقضايا هذا العلم الرفيع فيصيبه ما أصاب غيره من المعارف، وينقلب المجوّدون في مجتمعنا ـ إلاّ مَن عصم ربُّك ـ إلى أناس لايتقيّدون بقاعدة التأدية لأبسط أنماطها ولأنجح مهارات النطق السليم والإيقاع البيّن والوقوف بالتنغيم في مواطنه عند حدوده المناسبة في تحقيق الصفات وتطويع المخارج وتشكيل الأصوات المقترنة بالمعاني.
فقد آن الأوان أن ننهض بدقائق مسائل هذا العلم، وأن لانقصّر في الإلتزام بقواعده الصوتية ونخصّه جاهدين في ضبط فصوله كأوفى ما تكون الدراسات المعمّقة دقَّة وإحاطة وتمييزاً، لكي نسدَّ الفراغ المخجل الذي أصاب العمليّة الإقرائيّة للكتاب العزيز نتيجة شيوع التخلّف اللساني للمتطفلين ومداخلاتهم عليه، وترامي المتخلّفين ذهنياً وسمعياً وبصرياً على حماه، ومن بعض المقصّرين في حقّ القرآن من المحسوبين عليه الذين لايلتزمون مساراً نغمياً موزوناً ولايترسّمون مضموناً فيما يصعّدون تعالى كلام الله عن زيغ المناحات التي أورثتها مجالس الذكر التي لم تولِ اهتماماً لعلم التجويد بمجالاته اللغويّة والفنّية ممّا جعله محصوراً بنطق ضيقه ومحدودة لم تتعدَّ التلاوات التي تتلى في المساجد والعتبات كمسابقات للفتية وفي الفواتح والمآتم كمجالس للترحيم والتأبين.
وحتّى الذين يتلقّونه من الراغبين فيه لم يكن يتلقّونه وفق دراسة علميّة منهجيّة دقيقة لغياب المؤسسات الإقرائية ولضيق الإختصاص في هذا الجانب، ممّا دعتهم الحاجة الى التعليم الفردي غير المنظّم، إضافة إلى التحصيل النغمي الذي يعتمدون فيه على أذانهم لا غير، وهذا ما نبّه ونهى عنه أمير المؤمنين (عليه السلام) وصرّح بعدم جوازه، وكما أشار عليه مرات ومرات إذ قال: (ولاتُهذّهُ هذَّ الشِعّرِ ولا تَنثرُه نَثرَ الرّملِ)(الكافي 2/606).
وكي لا نتحرّق حسرة على ضياع هذا العلم منّا، ولايغيب أثره الجميل فيما نقرأ ونسمع من القرآن وجب علينا وعلى جميع المتصدّين لهذا الشأن في مؤسساتنا الدينيّة ومدارسنا وجامعاتنا العامّة والخاصة أن يأخذوا من هذا العلم النيّر ويعلّموه إقتداءً برسول الله (صلى الله عليه وآله) فيما أمر به، ليكون القرآن محجَّة قيّمة يتّبعها الناس في الإقراء، ونبعاً رائقاً ترتوي منه الإنسانية جمعاء، ومنهاجاً يلامس الضمير والفطرة والقلب، فقد جاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ينبَغِي للِمُؤمِنِ أن لايموت حتّى يَتَعَلَّمَ القُرآن أو يكوُنَ في تعلِيمِهِ)(الكافي 2/599)، وفي وصيَّة لسيد البلغاء (عليه السلام): (الله الله في القُرآنِ فَلا يَسبِقكُم إلى العَمَل بِهِ أحَدٌ غَيرُكُم)(نهج البلاغة ـ وصية ـ 285).

نشرت في الولاية العدد 127

مقالات ذات صله