م. هاشم محمد الباججي
ما سر ابن ابي طالب ! قسيم الجنة والنار؟
سر ابن ابي طالب ! .. هو الإيمان كله؟
ما سر ابن أبي طالب ! .. عمل واحد .. ضربة واحدة .. أفضل من عبادة الثقلين الى يوم القيامة؟
ما سر ابن أبي طالب! .. لو أن البحار مداد والاشجار أقلام وجميع الخلائق كتاب فما استطاعوا أن يجمعوا الا النزر اليسير من صفاته ، ولكلّوا عن الاتيان ببعض وصف معجزاته ؟
ما سر ابن أبي طالب …؟؟؟؟
يناجي ربه في ظلمات الليل … الهي كفى بي عزا أن أكون لك عبدا ، وكفى بي فخرا أن تكون لي ربا ، أنت كما احب اجعلني كما تحب …
فاستجاب له ربه .. فجعله كمالاً يمشي على الأرض … وجعله إسلاماً مجسداً في أرض الواقع … وكتابه الناطق .. وأذنه الواعية … وحبيبا لحبيبه .. ووصيا لرسوله .. وإمام هدى وحق … يدور خلفه الحق والصدق… لأنه حبل الله الممدود ما بين الأرض والسماء .. والعروة الوثقى التي لا انفصام لها والله واسع عليم.
لا يستطيع المرء معرفة كنه علي وماهيته حق معرفتها مهما كان علمه .. وهل يستطيع معرفته أحد بعد قول رسول الله صلى الله عليه وآله (لا يعرفك – يا علي – إلا الله وأنا..) لذا امتاز علي عن البشر بخصال ومميزات جعلت من ذاته البشرية قد وصلت إلى أعلى درجات الكمال الروحي والنفسي … والله إني لأعجب من قوله ( لو كشف لي الغطاء ، ما ازددت يقينا ) فأي يقين قد وصل إليه علي بن ابي طالب (عليه السلام)!
فأول ما خفق قلب عليٍّ بحبّ رسول السماء ابن عمّه صلى الله عليه وآله، ونطق لسانه أوّل ما نطق بتوحيد الله بعدما لقّنه إيّاه من رائع القول، واكتملت رجولته في مؤازرة النبيّ المضطهَد، فكان حبيبه وتلميذه وأخوه و شيئاً عظيماً من كيانه العظيم.
وكان أوّل سجوده لرب العزة والجلالة فنشأ على الفطرة التي فطر الله الناس عليها و على حبّ الخير، في رعاية النبيّ، وليصبح إمام العدل والحق والصدق من بعده، وربّان السفينة في غمرة العواصف والأمواج.
يعجز اللسان عن الوصف ويقف القلم حائرا … وتتعثر الكلمات .. في ذكر الفضائل التي حباها الله تعالى لعبده الذي استحق مقام العبودية الحقة بعد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله … عبد الله وأخو رسول الله ووصيه و أمير المؤمنين وسيدهم بالحق … ذلك هو علي بن أبي طالب (عليه السلام)… تميزت سيرته بخصال عدة وأبعاد شتى ، فلو تصفحنا علي(عليه السلام) الإنسان و تعامله الإنساني مع الآخرين، المبني على احترام الإنسان كإنسان، بغض النظر عن أي شيء آخر، والمحافظة على حقوقه وشخصيته المادية والمعنوية، في أي موقع ومكان، ومهما كان حجمه ومستواه.. كونه طريقاً إلى رضا الرب سبحانه وتعالى.
فلقد كانت سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) زاخرة بأمثلة متعددة، من التعامل الإنساني مع الآخر، في مختلف الأوضاع والظروف، فهي بحق بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أفضل مثال وقدوة تحتذى..
وإن حضور هذا البعد في حياته، هو الذي جعل من شخصيته، شخصية إنسانية خالدة على مستوى البشرية كلها، وليس في تأريخ المسلمين وحدهم.
يحذِّر نفسه أن يأكل خبزاً فيشبع في مواطن يكثر فيها من لا عهد لهم بشبع، وأن يلبس ثوباً ناعماً وفي أبناء الشعب من يرتدي خشن اللباس، وأن يقتني درهماً وفي الناس فقر وحاجة، ويوصي أبناءه وأنصاره ألاّ يسيروا مع نفوسهم غير هذه السيرة ..
لا أفعل ما يفعله الجاهلون.
فمن شواهد تعامله الإنساني ، حين سبق جيش معاوية، جيش الإمام في الوصول إلى منطقة القتال، واستولى على مشرعة الفرات، ومنعوا جيش الإمام من الوصول إليه، فضج أصحاب الإمام من ذلك، فاستنهض الإمام جيشه للوصول إلى المشرعة، و استطاعوا أن يجلوا جيش معاوية عنها وأن تكون لهم السيطرة عليها، فلما كان ذلك تصايحوا يقولون له: نمنعهم من الماء كما منعونا، ونقتلهم بسيف العطش، ولكنه رفض ذلك، وقال: خذوا حاجتكم من الماء وارجعوا إلى معسكركم وخلوا بينهم وبين الماء فإني لا أفعل ما فعله الجاهلون.
هكذا يضرب لنا مثلاً يحتذى في رفض استعمال الحصار والتضييق، ومنع ضرورات الحياة عن العدو، الذي يخوض معه معركة حاسمة، حتى إذا لجأ العدو إلى هذا الأسلوب؛ إن هذه حقاً هي أخلاق الإسلام في بعدها الإنساني الكبير.
الحقوق للجميع من دون استثناء
خان رجل من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) اسمه عبيد اللَّه بن الحر الجعفي الإمام والتحق بجيش معاوية في جوف الليل.. ذلك حين كانت نيران حرب صفين مشتعلة وفي قوانين الحروب يعاقب مثل هذا الخائن بالموت .. واستطاع أن يقدم عبيد اللَّه خدمات كبيرة لمعاوية.. أما زوجته فكانت في الكوفة … وقد سمعت خبر هلاك عبيد اللَّه في المعركة.. فاعتدت عدة الوفاة، وبعد ذلك تزوجت برجل من أهل الكوفة، في الوقت الذي كان عبيد اللَّه حياً في الشام.. وحين اخبر بزواج زوجته.. خرج من الشام ليلاً.. وقطع المسافات الشاسعة، ووصل إلى الكوفة، ودخلها ليلاً.. وتوجه فوراً إلى بيت زوجته، أما زوجته فقد خرجت إليه وهي محجبة.. وبعد حوار قصير أخبرته بزواجها من رجل غيره..
رأى عبيد اللَّه أن أبواب العودة إلى زوجته مغلقة في وجهه.. ورأى أن أفضل حل أن يتشرف بلقاء مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) ويخبره بقصته.. وأمير المؤمنين (عليه السلام) رجل العدالة والحق.. ولا يعدل عن الحق وإن كان المحق خائناً..
التقى عبيد اللَّه بأمير المؤمنين (عليه السلام) منكساً رأسه خجولاً لكونه يعلم أنه خائن.. سلّم على الإمام (عليه السلام).. أجابه الإمام وسأله مستنكراً: أعبيد اللَّه أنت؟ – أي أنت المنافق الذي خنت إمامك ودينك والتحقت بصفوف الكفر والنفاق وذلك في ظروف الحرب.. هل أنت ذلك الرجل-؟
لكن عبيد اللَّه يعلم أن علياً رجل الحق والعدل.. فانتهز الفرصة وقال: هل إن خيانتي تمنعك من العدل يا أمير المؤمنين؟ أجابه الإمام: كيف..؟ وطلب منه أن يسرد قصته وطلب من الإمام أن يغيثه في أمره.. والإمام أمر بإحضار زوجته وزوجها الثاني وحكم بينهما بالعدل من دون النظر إلى خيانته ، لأن العدل كما يراه علي.. شرعة ثابتة لا تنتقض حتى في التعامل مع العدو ويقول تعالى: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾.(المائدة: 8) (الحكومة الإسلامية في عهد أمير المؤمنين عليه السلام: 69).
قمة الإحسان .. يعاتب قاتله
أما أروع صور الحالة الإنسانية في حياة علي (عليه السلام) فقد تجلت في الساعات الأخيرة من حياته الشريفة، مع الرجل الذي ضربه بالسيف وهو في محراب صلاته ، فبعد هرب عبد الرحمن بن ملجم من المسجد يريد الفرار، قبض عليه بعض أصحاب الإمام (عليه السلام) فجاؤوا به إليه، وهو بعد متأثراً بضربة السيف المسموم والدماء تنـزف من مفرق رأسه، وأصحابه يتصايحون، ها هو عدو اللَّه قد أتيناك به يا أمير المؤمنين فنظر إليه الإمام نظرة مشفق عليه، لا نظرة انتقام وتشفي وقال له: يا ابن ملجم أبئس الإمام كنت لك ، وإذا ابن ملجم يبكي ويقول: لا.. ولكن هل أنت تنقذ من في النار.
واستمر تعامله الإنساني الرائع معه حتى آخر لحظة من حياته، فحينما وصف الأطباء اللبن دواءً وغذاء للإمام (عليه السلام) فبادر الناس حتى الفقراء والمعدمون في الكوفة بجلب ما يتمكنون من اللبن إلى بيت الإمام، حمل الإمام الحسن (عليه السلام) واحداً من أقداح اللبن إلى الإمام علي (عليه السلام)، فلما شرب منه قليلاً ناول ولده بقية القدح وقال: خذوه لأسيركم أطعموه مما تأكلون واسقوه مما تشربون .. اللَّه اللَّه في أسيركم ، إن هذا المستوى الإنساني الرفيع الذي احتوته شخصية علي (عليه السلام)، هو الذي ارتفع بعلي (عليه السلام) إلى درجات من السمو والخلود لا تجد لها نظيراً إلا شخصية أستاذه ومعلمه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ، فتجد من ملامح العظمة والخلود والبعد الإنساني ما هو واضح في شخصيته.
لقد عمل علي بن أبي طالب (عليه السلام) لله وحده.. فكان في قمة الإخلاص .. فرفعه الله وجعله سره وأمينه وباب حكمته والباب الذي منه يؤتى وباب حطة الذي من دخله كان من الآمنين .. يحذو حذو الرسول (صلى الله عليه وآله)..
نشرت في الولاية العدد 128