الإمام علي والخندق


حمود الصراف

نادى الأمين في الآفاق و رنّ الصوت في أسماع كلِّ الخلائق فلا من مجيب لقطع و إسكات زمجرة الباطل بكل حيثياتها فنهض النور فقال له اصبر.. و نادى من جديد ولم يكن من له الأحقيّة في الوجود أجمع، ونهض سراج الله فقال له اصبر.. ونادى مرة ثالثة كذلك، فتسامى النور المتألّق في السموات والأرض خجلاً وهيبةً، الكلُّ ما بين منبهرٍ وحسودٍ ومتخفٍ ليلاقح العلا ويكتب المنهاج لسبيل الحق ويقطع دابر الباطل، ولتتسامى دعوة المصطفى الأمجد وتأخذ طريقها إلى ما شاء الله تعالى…
عندما نقضت بنو قريظة صلحها مع النبي (صلى الله عليه وآله)، وانضمَّت إلى صفوف المشركين، تغيَّر ميزان القوى لصالح أعداء الإسلام.
فتحزّبت قريش والقبائل الأُخرى، ومعهم اليهود على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى المسلمين، وكان يقود الأحزاب أبو سفيان، فقاموا بتطويق المدينة بعشرة آلاف مقاتل، ممَّا أدَّى إلى انتشار الرُعب بين صفوف المسلمين ، وتزَلْزَلَت نفوسهم، وظَنّوا بالله الظنونا، كما قال الله تعالى: (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) الأحزاب:10

معركة الخندق:
عندما تجمعت جيوش الضلالة لقتال المسلمين ووصلوا المدينة المنورة بدأ الاستعداد لهم.. فاستشار رسول الله (صلى الله عليه وآله) أصحابه في صدِّ الهجوم القادم من العدو على المدينة، وبعد المشاورة توصّلوا إلى حفر خندق يحصّن المسلمين من أعدائهم.
فبدؤوا بحفر الخندق حول المدينة باتجاه العدوّ، وخرج النبي (صلى الله عليه وآله) مع المسلمين ليشاركهم في حفر هذا الخندق، وتقسيم العمل بينهم، وكان يحثّهم ويقول: (لا عيش إلاّ عيش الآخرة، اللهم اغفر للأنصار والمهاجرة)..
واستطاعت مجموعة من العدو عبور الخندق، وكان من بينهم عمرو بن عبد ودٍّ، فصال وجال، وتفاخر وتوعد.. ونادى: هل من مبارز؟ فلم يجبه أحد حتّى قال:

ولَقَدْ بُحِحْتُ من النداء بجمعكم هَلْ مِنْ مُبارزْ
وَوَقفْتُ إذ جَبنَ المُشَجَّعُ مَوقفَ البَطَــــــــل المناجِزْ
إنّي كذلك لم أزلْ متسرّعاً نحــــــــو الهزاهز
إنّ السماحة والشجاعة
في الفتـــــى خيْرُ الغرائز

فقام الإمام علي (عليه السلام) وقال: (أنَا لَهُ يا رَسولَ الله).
فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): (اجلس، إنّه عمرو)، فقال الإمام علي (عليه السلام): (وإن كان عمراً). فعند ذلك أذن (صلى الله عليه وآله) له، وأعطاه سيفه ذا الفقار، وألبسه دِرعه، وعمَّمه بعمامَتِه، ثمّ قال (صلى الله عليه وآله ): (إلهي أخذت عبيدة منّي يوم بدر، وحمزة يوم أُحد، وهذا أخي، وابن عمّي، فلا تَذَرني فرداً، وأنت خير الوارثين)، وقال (صلى الله عليه وآله) أيضاً: (برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه)(بحار الانوار: 30/315).
ومضى (عليه السلام) إلى الميدان، وهو يقول:

لا تعجلنَّ فقد أتاك
مجيبُ صــوتكَ غير عاجزْ
ذُونية وَبصيـــــــــــــرة
والصدقُ مُنجي كلّ فائز
إنّي لأرجو أن أُقيمَ
عليكَ نائحة الجنــــــــــــائزْ
مِنْ ضَرْبَة نَجلاء يَبقى ذكرُها عِندَ الهَزاهِزْ

ثمّ خاطب ابن عبد ودٍّ بقوله: (يا عمرو، إنّك كنت تقول لا يدعوني أحد إلى واحدة من ثلاث إلاّ قبلتها).
قال عمرو: أجل.
فقال الإمام علي(عليه السلام): (فإنّي أدعوك أن تشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله، وتسلم لربّ العالمين).
فقال: يا ابن أخي أخّر عنّي هذه.
فقال له: (أما أنّها خير لك لو أخذتها).
ثمّ قال(عليه السلام): (وأُخرى ترجع إلى بلادك، فإنْ يكُ محمّد صادقاً كنت أسعد الناس به، وإن يك كاذباً كان الذي تريد).
قال: هذا ما لا تتحدّث به نساء قريش أبداً.
ثمّ قال (عليه السلام): (فالثالثة، أدعوكَ إلى البراز).
فقال عمرو: إنّ هذه الخصلة ما كنت أظنّ أن أحداً من العرب يرومني عليها، ولم يا ابن أخي؟ إنّي لأكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك، وقد كان أبوك لي نديماً.
فردَّ الإمام علي(عليه السلام) عليه قائلاً: (لكنِّي والله أحِبّ أن أقتلَكَ).
فغضب عمرو، فقال (عليه السلام) له: (كيف أقاتلك وأنت فارس، ولكن انزل معي).
فاقتحم عن فرسه فعقره، وسلّ سيفه وأقبل على الإمام علي(عليه السلام)، فصدَّه برباطة جأش، وأرداه قتيلاً، فعلا التكبير والتهليل في صفوف المسلمين.
ولمّا قتل الإمام علي(عليه السلام) عمراً أقبل نحو رسول الله(صلى الله عليه وآله) ووجهه يتهلّل، فقال له عمر بن الخطّاب: هلاّ سلبته يا علي درعه، فإنّه ليس في العرب درع مثلها؟
فقال(عليه السلام): (إنّي استحييت أن أكشف سوءة ابن عمّي).
وعند رجوعه(عليه السلام) بعد تحقيق ما أبهج النبي صلى الله عليه وآله، استقبله (صلى الله عليه وآله) وهو يقول: (لَمُبَارَزَة عَلي بن أبي طالب لِعَمرو بن عبد ودٍّ أفضلُ من عَمل أُمَّتي إلى يوم القيامة). وفي رواية: (ضربة علي يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين).
كانت ضربته(عليه السلام) هي الانتصار وانكسار العدو وتحول الخوف الذي دبّ بين صفوف المسلمين إلى أمن واستعدادٍ لصدّ باقي الفلول لقد كانت أهمّ عناصر النصر على جيش الكفر والضلال.
تذكر المصادر أنّه لمّا قتل علي بن أبي طالب (عليه السلام) عَمرَ بن عبد ود نعي إلى أخته ـ واسمها عمرة وكنيتها أُمّ كلثوم ـ فقالت: من ذا الذي اجترأ عليه؟
فقالوا: ابن أبي طالب، فقالت: لم يعد موته إن كان على يد كفو كريم، لا رقأت دمعتي إن هرقتها عليه، قتل الأبطال وبارز الأقران، وكانت منيته على يد كفو كريم من قومه، ما سمعت بأفخر من هذا يا بني عامر، ثمّ أنشأت تقول:

لو كانَ قاتِلُ عمرو غيرَ قاتِلِه لكنتُ أبكي عليه آخرَ الأَبدِ
لكنََّ قاتلَ عمروٍ لا يُعابُ بِه مَن كانَ يُدعى قديماً بيضةَ البلدِ
من هاشمٍ ذراها وهي صاعدةٌ إلى السماءِ تُميتُ الناسَ بالحسدِ
قومٌ أبى اللهُ إلاّ أنْ يكونَ لهم كرامةُ الدينِ والدنيا بلا لددِ
يا أُمَّ كلثومَ ابكيهِ ولا تدعي بكاءَ معولةٍ حرّى على ولدِ

إنّ معركة الخندق صدت جموع الكفر وأعلنت بقاء المسيرة الإلهية بتلك الضربة التي عادلت الثقلين، وأرست القواعد، وثبّتت الأساسات و ألجمت الألسن، إنّ الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الرجل الثاني بعد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله.

نشرت في الولاية العدد 130

مقالات ذات صله